لمسات شخصية بعيدة جدا عن الموضوعية
في البدء كان الشعر

سلام سرحان

الوسط الثقافي العراقي هو وسط شعري بامتياز، إذ نادرا ما تجد مبدعا عراقيا لم يبدأ خطواته الأولى بكتابة الشعر. بل إن البعض يذهب أبعد من ذلك ليقول، إن النادر هو أن تجد أي عراقي لم يتلمس طريقا الى الشعر. تلك التصورات لا يقولها العراقيون، بل كل من اقترب من نارهم وأطل على نوافذ أرواحهم، حتى شاع التساؤل في البلدان العربية: هل إن كل عراقي شاعر!؟

وإذ يبدو للبعض أن ذلك الهيام الفاغر قد تراجع بعد العقدين أو الحربين الماضيتين، يجزم آخرون بحدوث العكس، وأن نار الألم قد زادت ميل العراقيين الى نافذة الشعر وملاذها الوجودي. كل الأدلة تشير الى أن حمى الشعر كانت مشتعلة هناك طوال التاريخ... التاريخ الذي ولد في تلك الأرض باختراع الكتابة، من أجل كتابة الشعر والأناشيد والملاحم أولا! هناك؛ في البدء كان الشعر.
الشاعر في المجتمع العراقي له هالات كثيرة، لا تبدأ بالتفرد والقفز الى ما هو أعلى وأشهى، ولا تنتهي بالتمرد والجنون؛ وجميعها تستهوي العراقي، لكن صفة الشاعر المتمرد هي الأكثر إغراء للأجيال الشابة طوال العقود الماضية، يغذيها الشعور باللاجدوى بعد أن أغلقت الحروب كافة الآفاق وعصفت بالحياة.
كل ذلك جعل الوسط الشعري العراقي أوسع مما نتخيل، وجعله أشبه بمرجل لا يكف عن الغليان بأقصى مغامرات التجريب والمغايرة والتمرد على المنجز الشعري، هكذا جاءت معظم مغامرات التجديد في الشعر العربي من العراق، بدءا من أولى خطوات الشعر الحديث وانتهاء بآخر مغامرات التجريب والاختلاف.
في مطلع الثمانينات، حين بدأت أتلمس طريقي في فضاء الشعر والوجود والعدم، كان الوسط الثقافي في بغداد يغلي بعدد هائل من الشعراء المليئين باللهب والقفز والشعر والتمرد والنزوع الى الخلاص. كانت النقاشات والسجالات تقارب حضور الحرب في حياتنا، فكانت لا تكتفي باستعارة لغة الحرب بل أجواؤها أيضا، من قصف ونار واشتباكات. كان التنافس على الحضور في حياة الوسط يدفع الى الأقصى والأعلى والأبعد، كنا في عشرات السباقات والمنافسات للإتيان بالباهر والمدهش من أجل لحظة زهو لا تلبث أن تنطفئ، لنعاود حمل الصخرة والصعود مرة أخرى.
الجميع كان ذاهبا في المغامرة الى أقصاها، دون أدنى تردد، بفعل حمى غامضة تأسر الجميع، ليؤدي كل دوره في ذلك الكيان الجماعي القاسي والغامض والباهر، والذي لا يعترف باستقلال وتميز أي فرد من أفراده. كان الجميع يتحرك بحماس لا نعرف سره، لتجري في عروق ذلك الكيان خلاصة المعرفة الانسانية وجنونها وآخر ما تقفز إليه المخيلة الابداعية في العالم. إذ كان للوسط آلاف المجسات، التي تنتخب أعلى وأجرأ ما في الثقافة العالمية، فيجري كل يوم تداول عشرات النصوص والمقالات والكتب التي يجري استنساخها بالكامل.
كان العالم مغلقا دوننا، لكن غريزة البقاء كانت تحوله الى نوافذ فاغرة. فإذ يحصل لأي مثقف في العالم أن لا تقع يده على مطبوع مهم، فان ذلك كان نادر الحدوث في ذلك الوسط الثقافي الملتهب، إذ لا بد أن تصل نسخة عبر إحدى القنوات الكثيرة التي ابتكرتها غريزة البقاء. وما أن تصل تلك النسخة حتى تنطلق شرارة الخبر الى كافة أرجاء العالم السفلي، فتكون تلك النسخة كافية لاطلاع الجميع عليها عن طريق التداول والاستنساخ.
لكن هذا المرجل كان أيضا محرقة للكثير من المواهب، بسبب هامشه الاجتماعي الصاخب، الذي يعج بالآراء القاطعة والأحكام الصارمة والقاسية. وقد فاقمها ضيق فضاء النشر، وحالة التهميش والإقصاء، التي وجد الوسط الثقافي نفسه مقذوفا فيها، طوال عقود طويلة، بالإضافة للقائمة الطويلة من الممنوعات. كل ذلك جعل هذا الوسط قاسيا ونزقا ومتطلبا، لا يعترف بمنجز أحد من أفراده، ويدفعهم الى حافة الهاوية، والويل الويل لمن لا يذهب في المغايرة والاختلاف والتجريب الى أبعد مدياتها، فهو سيصبح فريسة لهذا القطيع المفترس من الشعراء السائبين.
كان الاختلاف والذهاب الى الأبعد، حاكما مطلقا، يدفع معظم الأصوات الى التطرف في استخدام أدواتها الشعرية والى سرعة هائلة في الانقلاب على ما ينجز ومغايرته، مما أدى ببعض تلك الأصوات الى الاندفاع في التطرف حتى بعد أن تكون قد بلورت أدواتها ورؤيتها الشعرية الخاصة.

هذا الوسط الضاري في حماسه، واصل طوال الوقت دفع مواهبه الى حدود اللاجدوى، فاحرق الكثير منها، بمواصلة دفعها الى مغامرات أبعد من حدود الاحتمال، فاستهلكت تلك الدوامة العديد من الأسماء، التي كانت تعد بالكثير، قبل أن تسقط في متاهة دهاليز هذا الوسط, التي يصعب الخروج منها.
كان للثقافة الشفاهية سحرها وقسوتها، وقد وجدت في المقهى والحانة فضاء مقنعا، لا يمكن مقاومة إغرائه في ظل عدم وجود فرص النشر، مما كرس حلقة مفرغة من النشاطات والطقوس، التي وفرت للكثير من المبدعين متعة إلغاء كافة الحدود (بتجاهلها) والتحليق الحالم في حوارات مفعمة بالنوايا المطلقة. كل ذلك جعل الوسط يستقطب الكثير من الفراشات الحالمة بالضوء الى ناره ودوامته السيزيفية القاتلة، التي تبدأ بالمقهى وتنتهي بإغلاق آخر الحانات في الصباح المبكر، لتعاود رحلتها من جديد، فأسست تقاليدها وأصبح لها نجومها وصعاليكها المتميزون، الذين لا تستقيم الطقوس إلا في حضورهم.
لكن هذا الوسط الملتهب، بتحدياته التراجيدية الهائلة التي يقذفها بوجه المواهب الجديدة، كان في الوقت نفسه يقوم بعملية انتخاب طبيعي قاسية لامتحان المواهب المتماسكة. وهو بقدر ما أحرق من مواهب، صقل أخرى ليجعلها قادرة على التحليق الى أعلى تخوم الرؤيا.
الشاعر الذي يدخل تجربة المختبر الشعري العراقي، التي تقلّب كلّ يوم أسئلة الوجود والعدم، إما أن يفقد بوصلته في متاهتها أو يخرج منها وقد أتقن القفز الى ما هو أعلى وأشهى. الشاعر الذي ينفذ من ذلك المرجل يخرج بأجنحة قادرة على التحليق في فضاء المغامرة الشعرية بلمسته الخاصة وإيقاعه الخاص.  
كل تلك الصور الداكنة والغامضة والساحرة تنطبق، خاصة على عقد الثمانينات الذي بدأت معه أتلمس طريقي في متاهة الوسط الشعري. حينها، كانت الأصوات الشعرية الجادة غائبة تماما عن المشهد الشعري العراقي والعربي. وكان لأسباب ذلك الغياب (غير الشعرية تماما) دورها في إبعاد وابتعاد الأصوات الجادة عن المنابر الثقافية التي ازدحمت بأصوات لا تمثل المشهد الشعري بقدر ما تمثل قبضة الحرب التي تمسك بزمام الحياة.
كانت جميع المنابر قد أغلقت أبوابها دوننا، وانشغلت بخطاب السياسة والحرب، بشروطه ورجاله، مما جعل مهمة الوصول الى المنابر الثقافية أمر مستحيلا أمام الاصوات التي تحاول اكتشاف نبرتها وفضاءها الشعري في حصار الأسئلة. كل ذلك دفع المشهد الشعري الحقيقي الى حفر أنفاقه وعالمه السفلي ليؤسس رده الحياتي بدافع غريزة البقاء.
كنا نحيا في عالم آخر، نأكل الشعر ونشرب الشعر وننام في الشعر ونحلم به، كنا نشعر بأننا خبرنا كل التجارب وقطعنا كل الاشواط في الاختلاف عنها، وأصبحنا أقرب ما يكون الى جوهر الشعر، أو على بعد خطوة واحدة من الأبدية.
هل حقا بلغنا ذلك؟ يمكنني أن أقول الكثير في تأويل تلك المرحلة... لكنني ومن أجلي أفضل أن لا أفسد سحرها، كي أبقى على بعد خطوة واحدة من الأبدية.

 

  ارسل هذه الصفحة الى صديق

اغلاق الصفحة