ألف لسان ولسان

عن قوة الصمت في النص الشعري العراقي

أحمد عبد الحسين

www.aqwas.20m.com

(1)

 

(تكلم والا قتلتك)...ذاك هو الشعار الذي يمكن استخلاصه من حكاية شهريار الحاكم مع شهرزاد المحكومة بمواصلة الكلام، حكايتهما استولدت حكايات على مدى ألف ليلة وليلة، أي الى مالانهاية إذا ما سلمنا مع (بورخس) بأن الرقم (ألف) إشارة الى الزمن باطلاق إذ هو الرقم الأخير، أما الليلة التي أعقبت الليالي الألف فهي الإنفتاح على اللانهائي والدخول في رحابة متصلة بالأبد.

 

(تكلم والا قتلتك)... هو مبدأ الحكاية ومنتهاها ، تجده مبثوثاً في طيات الليالي الألف وتضاعيفها، حاضراً مع حضور أشخاص الوقائع، حياً بحياتهم، متقاطعاً مع مصائرهم المتقاطعة. هكذا كأنما الخوف من القتل محرض على استيلاد الحياة، حياة شهرزاد وحياة شخوص حكاياتها.  إذ ليس السندباد والعمالقة والجن الذين التقاهم سوى مخلوقات خوف شهرزاد على حياتها، وليس السرد الحكائي الشهرزادي - بعد ذلك كله -  سوى تأجيل للموت، وضع الموت في أفق انتظار دائم.

 

( أتكلم لأحيا ) تقول شهرزاد، وبالكلام وحده أدرأ موتي، وبه استخرج أشخاصي من عدمهم ليعضدوا رغبتي بالحياة، ليسندوني، إذ هم مادة كلامي الذي هو شرط وجودي، ينبغي ان لا أصمت ، أن أستمر، وللكلام أن يتناسل مولداً الكلام، ينبغي استبعاد الصمت، فهو والموت سواء.

 

الخوف من الصمت كان سيد حكاياتنا الألفية. لقد تمكن الخوف من شهريار المتسلط فأجبره على إصدار أمره بمواصلة الكلام. وتمكن بعد ذلك من شهرزاد التي باتت مرغمة على أن تحيا بوصفها لساناً انشطر الى ألف لسان ولسان.

تلك هي الترسيمة التي اتخذتها سلطة شهريار على ضحيته المؤجلة.

والحال انها الترسيمة التي تتقنّع بها السلطة في كل زمان ومكان، آمرة ضحاياها أن يؤجلوا موتهم بالكلام.

 

 

(2)

 

السلطة والصمت ضدان. وفي آخر الأمر فان قوة سلطة ماانما تتحدد في قدرتها على جعل رعاياها حظيرة ألسنةٍ تلهج بتمجيد هذه القوة المهيمنة. ان السلطة تطلب الانكشاف التام المفضي الى اليقين، ولذلك فان الصمت عدوها الألد، ليس لأنه علامة حياد فحسب، لكن لأن عليه مسحة من السر وعدم الظهور. انه الباب الموصد على خزائن الضمائر وخبايا النفوس، فهو يخفي ما يراد له ان يظهر تحت أعين السلطة. ولذا فالصمت ، في عرف الأنظمة الإستبدادية ،  مساوق لكلام الإحتجاج، بل ان خطره أشد لأنه المعقل الذي يتمترس خلفه احتجاج لا يفصح عن نفسه.

تتقدم الديكتاتورية محفوفة دائماً بجوقات انشاد وهتافين ، ولا تزدهر الا بالصخب وضجيج الألسنة المتصاعد الذي يتخذ فعل الوشاية على الصامتين  -  الرافضين، دالّاً عليهم ومتّهماً إياهم بعدم التناغم مع هذه الأوبرا القسرية التي يراد لها ان تعلو على أصوات الأنين المنبعثة من تحت سنابك خيل المسيرة المظفرة.

فأولئك الذين قُيض لهم، مصادفة، أن يكونوا عراقيين، وأن يكونوا ، بمحض الصدفة أيضاً، أحياء في عقد الثمانينات من القرن الماضي، يدركون أكثر من سواهم عمق معنى الجملة الشكسبيرية:( انها حكاية يرويها معتوه ملؤها الصخب والعنف) ذلك ان العنف الذي كنا شهوده وشهداءه ( شهداءه وليغضب أباطرة المنفى) لم يمر دون مزيد من الصخب والضجيج. ففي كل مكان وحيتما وليت وجهك تجد ثمة من يتكلم، يهتف، يقول شعراً، يمجد العنف ذاته، في الإذاعة والتلفزيون، كما في الشارع والكلية، في البيت أو في المقهى، لم يكن مسموحاً للعراقي بأن يخلد الى قلبه. لم يكن مسموحاً له أن يصمت.

 

 

(3)

 

في منتصف الثمانينيات كتب سلام كاظم في جريدة القادسية عن ( ولادة جيل شعري جديد بدأ ينمو في المقاهي والمقاعد الخلفية لإتحاد الأدباء) وهي ، على ما أظن، الإشارة الأولى التي سمّت شعراء مابعد السبعينات جيلاً ، ومع ذلك فقد كان اعترافاً متأخراً بعض الشيء، اذ ان كثيراً من أسماء هذا الجيل كانت قد اتضحت واندغم بعضها في المشهد الشعري العراقي، سواء من خلال ما نشره في الصحف والمجلات الأدبية ( الطليعة الأدبية تحديداً التي كانت باعتقادي أهم مجلة أدبية عربية) أو من خلال مشاركاتهم  في منتدى الأدباء الشباب قبل أن يترأسه نقيب في المخابرات.

أغلبهم طلبة جامعات وجدوا في إحدى مقاهي شارع الرشيد(مقهى حسن عجمي) حيزاً لتداول نوازعهم في المغايرة والتخطي، على مسمع من فرسان القصيدة السبعينية الذين رغبوا في الإفصاح عن انفسهم بوصفهم حركة شعرية متجانسة الا أن تباين أصواتهم واختلاف مناطق اشتغالهم الشعري كان مدعاة لتنشيط الاختلاف وعدم التجانس، وامتد هذا التأثير الى قصيدة الثمانينيين الى الحد الذي كانت فيه نصوص السبعينيين الهامة والتي شكلت العلامات الفارقة لكل منهم، متزامنة مع النصوص الثمانينية التي أطلقت أسماء أصحابها داخل المشهد الشعري العراقي بقوة. وسينتهي الجيلان معاً الى الإلتقاء على خصائص مشتركة أبرزها تكريس خيار قصيدة النثر( بعد ان كانت المجاميع الأولى للسبعينيين قد استبعدتها تماماً) وجعل القصيدة بؤرة معرفية بامتياز، الإعلاء من شأن النص المفتوح على أنماط كتابية شتى: السرد ، القص، استخدام الفضاء المسرحي، تلوين القصيدة بالتضمينات المرحّلة من نصوص نثرية تأريخية أسطورية أو فكرية.

كان هذا هو الرحم الذي خرج منه جيل شعري نضج قبل الأوان بعون من الحساسية الجديدة التي أسهم سبعينيو الداخل والخارج في خلقها. ففي غمرة انشغال العراق بتعداد أبنائه المتساقطين على الجبهة الشرقية ،  كان الشعر العراقي ، على يد هؤلاء الشبان،  يحرث في أرض أخرى، مستكشفاً أداءً جديداً يقربه من فعل المقاومة، مقاومة العسكرة التي طالت كل شيء ، مقاومة الهبوط بالأدب والفن الى انحطاط غرائبي، مقاومة الرضوخ لشروط النشر ( كان خالد علي مصطفى يكرر: نريد منكم قصائد أكثر هدوءاً ) ، والأهم من كل ذلك مقاومة محاولات الاستدراج الى مهرجان الصخب الذي غطى على هدير الأسلحة التي فتكت بالعراق.

 

 

(4)

 

حين صدر كتاب (الموجة الجديدة) في منتصف الثمانينات ضامّاً بين دفتيه أهم أسماء الجيل السبعيني وكل الأسماء الثمانينية تقريباً، محتوياً على نصوص لواحد وخمسين شاعرا، قُدّر له أن يكون نموذجاً مصغراً لواقع الشعر العراقي المنتج داخل العراق طوال أكثر من عقد، ولم يدر بخلد أحد ان هذا الكتاب ،برغم صدوره عن دار نشر رسمية، سيكون وثيقة إدانة للحرب التي كانت في أوج جنونها، فالمتصفح له يجد ان القصائد كلها اتخذت لنفسها مسارب مموهة لقول احتجاجها ورفض ما أشاعته مؤسسات السلطة من منطق يكرّس أدباً تعبوياً ممثلاً بالركام الكبير الذي صدر عن وزارة الثقافة ضمن سلسلة ( تحت لهيب النار) أو (ديوان المعركة).

كانت السمة الغالبة على قصائد ( الموجة الجديدة) الإبتعاد عن الإنكشاف والوضوح اللذين اتسم بهما الأدب الرسمي، ونشأ منذ ذلك الحين نشاط شعري يتجاذبه هم مزدوج: الوفاء للقول الشعري واستحداث أداء يكفل لهذا القول أن يكون منشوراً ومقروءاً. وقد كان واضحاً لدى الجميع فداحة الخطر الذي يتهدد شاعراً يجعل من قصيدته فسحة للحديث عن الحرب خارج نمط الأداء التمجيدي فانتهى الأمر بشعراء الجيلين السبعيني والثمانيني الى الركون لكتابة تتشاغل بتسامِ صوفي عرفاني أو تأريخي أو أسطوري يتم فيه تبديد الحاضر ونسيان الواقعة، أو تشظية القول وتفتيته بحيث يعود من المتعذر الإمساك به أو صرفه باتجاه تأويل محدد، مثال ذلك ما فعله زاهر الجيزاني في قصيدته المطولة (أغنية الاله مردوخ) التي هي في واقع الأمر رثائية عميقة ومؤلمة للعراق، اختلط فيها النثر بالوزن، اليوميات بالإنشاد، البوح الذاتي الحميم بأقوال فلاسفة ومفكرين، السياحة الأسطورية باليومي والمباشر، الى الحد الذي ربما كان دالاً على ان ( النص المفتوح) الذي كتبه بعض شعراء الجيلين كان، إضافة الى أهميته الفنية، مساحة رحبة تترك للشاعر فرصة اللعب الحر بالأقوال وتقليبها على وجوهها ليكون في منأى عن النص المكثف الذي يستلزم قولاً محدداً قابلاً للفحص.

وقد تجد ، إضافة لذلك ، تلك النصوص الباذخة الت أفرغ فيها الشاعر القاموس كاملاً في محاولة منه لجعل اختلاط النص مضاهياً لتعدد الوجود وتباينه، وهي تحمل السمة ذاتها المتمثلة في عدم انشاء وحدات قولية يمكن رصدها بسهولة. من أمثلة ذلك الضرب من الكتابة نص (انك بشع وغير كوني) أو(خزائيل) لخزعل الماجدي الذي تمكن من تحفيز عدد غير قليل من شعراء الجيل اللاحق له على خوض ذات التجربة والدخول في هذا الكرنفال اللغوي الذي لا يفضي الى قول ممسوك.

 

(5)

 

الركون الى عدم القول، تمجيد الصمت كتابياً، وضع الناقد بإزاء عجزه عن مواكبة نص شعري يحاول بلوغ الصمت المطلق، فقد تحدث حاتم الصكر في كتابه( في مواجهة الصوت القادم) عن المجانية في استخدام اللغة والرمز لدى بعض الشعراء، في حين اعترف الناقد فاضل ثامر علانية بعدم قدرته على استيعاب نص لأحدهم مفضلاً تنحيته جانباً وكان ذلك في الصفحة الأخيرة من كتابه ( الصوت الآخر) وهو ذات الأمر الذي قام به الناقد ياسين النصير في عدد من مجلة أسفار مخصص للجيل الثمانيني.

نصوص كثيرة تلك التي كانت اللغة الملتفة على نفسها عمادها الأوحد، الخوف من الإفصاح، الرغبة في عدم الوصول . انها نصوص ( تتقدم ولا تصل) . تقرأ قصيدة لفاروق يوسف محملة بأسئلة متتابعة لكنها تنتهي بهذا الإستدراك ( هل أخطأت؟ كفى ولينته المشهد.) ثم تقرأ نصاً لزاهر الجيزاني مختوماً بقوله ( هل قلت شيئاً؟) وتشعر كما لو ان الشاعر يستدرك سيل الأقوال التي يزخر بها نصه ، مفرغاً اياه من محتواه القابل لملامسة الواقعة ، مثبتاً في الوقت عينه، الطبيعة الإنكارية التي تجعل النص يلتف على نفسه لينقض مابناه أول مرة ، مدفوعاً برغبة أكيدة في تحييد القول الشعري ازاء الواقعة بقصد تمويه القول أو إخفائه. فمادام ثمة تنصّل من من تبني الفحوى المشيرة الى الخارج، تظل كل العلاقات الأخرى المحتملة الدالة عليه، كالنبرة الفجائعية وتهشيم رمز البطل والمخلص، والإنشداد الى أسئلة مقدر لها أن تظل مفتوحة، تظل محض تفصيلات تعتمل داخل النص دون أن تتخارج على هيئة علامات تسائل ما يحدث. ذلك ان تحويل الاحتجاج الى حيز الأداء الشعري أو استثمار الرغبة في إنكار الواقع، ثم صرفها باتجاه محاولة انكار نمط كتابي ما، ينزع عن النص جنبته التحريضية أولاً، ويسهم ثانياً في تأهيله للدخول الى حيز التداول بوصفه انقلاباً كتابياً ليس الا. اذ النصوص بمجملها تغدو محض اعتراض على نصوص أخرى ، والجملة ذاتها ليس مناطاً بها الافصاح عن الشاعر بل عن رغبة عارمة في الاندفاع الى الأقصى، أقصى حدود اللاقول أو اللامعنى.

 

(6)

 

الى أي حد يمكننا القول بأن التفرّس في الأداء الشعري كان أشبه مايكون بالإعتذار عن عدم القدرة على التفرس بالأنقاض التي راكمتها الحرب في طريقها الطويل؟

وهل يمكن اعتبار الزلزال الذي لحق بالنوع الشعري معادلاً للزلازل الكبيرة التي غيرت صورة الوطن؟

كان الشاعر محكوماً بالهرب الى أصقاع نائية لا يمكن ان يضبط فيها بالجرم المشهود، متلبساً بجريرة رؤيته لما يحدث او الكشف عنه. انه لا يريد أن يُفهم ليستبعد الفهم عن نصه ذاته ، لهذا تجد ان شاعراً كخزعل الماجدي يصرح في لقاء معه انه يجاهد لئلّا يفهمه أحد، فهو مأخوذ بحرصه على تجاوز نفسه والاستمرار في مغامرة الكلام الذي هو والصمت سواء.

الرغبة ذاتها حتمت على الشاعر كمال سبتي ان يستجرّ الطبيعة الإنكارية الى مشروعه الشعري مطلقاً عليه اسم ( اللاشعر) .. وهي، كما أرى ، التسمية الأكثر جرأة ودلالةً ، لجهة إشارتها الى أن الشعر العراقي _ في نماذجه الأكثر إضاءة_  بلغ المنطقة التي أصبح فيها مفارقاً للنوع الشعري، فكان لا بدّ من البحث عن مسميّات تتواءم وهذه القطيعة. الا ان نقض الشعر بـ( لا) يحمل ، اضافة لذلك، رغبة في قطع الطريق على فحص الحمولة الإنكارية - الإحتجاجية التي زخرت بها نصوص الجيلين معاً والتي كانت تتدرع باللاقول.

 

 

(7)

 

 

إذا كانت كل الأمثلة الشعرية التي سبق إيرادها تخص السبعينيين، فذلك لأنهم أشاعوا أنماطاً من الأداء الشعري الذي سيتلقفه الشعراء اللاحقون، منوّعين عليه ومضيفين له من قلقهم، ما عمّق هذه الخاصية الفريدة في الشعر العراقي ، أعني إنتاج نصوص يتشبه القول الشعري فيها بالصمت.

كان هذا قبل ان يتفرق ثلاثة أرباع الثمانيين في أقطار الأرض باحثين عن ملاذ يسع لهاثهم، ومستكشفين في الآن ذانه نصهم المؤجل، النص الذي لا يخشى من قول الواقعة.

 

(8)

 

ومما حكته شهرزاد لشهريار كي تنقذ حياتها:

ان جنياً غاضباً أمسك السندباد وقال له: (إحكِ لي حكاية عجيبة تدهشني وإلا قتلتك في الحال، تكلم والا قتلتك) . وبعد أن عجز السندباد عن إدخال الدهشة على الجني بحكايات أسفاره ومغامراته، تذكّر واقعته التي هو فيها، فقال للجني:

وهل هناك أعجب من حكايتي معك، حكاية تقول ان جنياً غاضباً أمسك رجلاً سائراً في الصحراء وقال له أحكِ لي حكاية أو تموت.

هدأ الجني وأطلق سراحه

ماالكلام الا تأجيل للموت. لكن كلام الواقعة وحده يزجّنا في الحياة.

هذه الكتابة اريد لها ان تكون مقدمة لمشروع اكبر اعده عن الشعر العراقي

 

  ارسل هذه الصفحة الى صديق

اغلاق الصفحة