طبقات شعراء الثمانينات في العراق..

إعادة مراجعة لخريطة المشهد الشعري الملتبس 

محمد مظلوم

http://irtikabat.tripod.com

 عندما نتحدث عن الجيل بالمعنى (الخلدوني)1 للمصطلح فإننا سنضع الشعر العراقي منذ الثورة الشعرية الأولى أواخر الأربعينات على يد السياب وبقية الرواد وحتى الثمانينات، في جيل شعري واحد، وسنجد أننا نشهد ـ راهناً ـ جيلاً شعرياً جديداً يستدعي منا تقصي إرهاصات خطابه المختلف، وكذلك اختبار مدى ثوريته واختلاف سؤاله وتعبيراته ومساراتها خلال الأربعين سنة الأخيرة.

أما عندما نتكلم عن الجيل بالتقويم العقدي ـ كما هو الحال مع الشعر العراقي ـ فإننا سنجد تدرنات عنقودية من الشعراء سرعان ما تنفرط، أو موجات خافتة مآلها الانطفاء والانحسار قبل أن تصطدم بعناوينها الكبيرة.

ففي إحدى الجلسات في مقهى حسن عجمي صيف عام 1982، وبشيء من التندر، أحصينا أنا والصديق الشاعر نصيف الناصري، أسماء لأكثر من مائة شاعر ظهروا خلال مجلتي الكلمة والطليعة الأدبية اللتين صدرتا بالتعاقب، في السبعينات، كما أحصينا حتى ذلك الوقت ما يقرب من سبعين شاعراً ظهروا بعد جيل السبعينات فقط!

وبوصولنا إلى عقد الثمانينات يجدر بنا أن نتذكر ما أفرزته التجارب العقدية السابقة الستينات والسبعينات تحديداً من تغييرات مستمرة في مواقع الشعراء على خريطة العقد، ومدى وأهمية إنجازهم وتأثيراتهم في المشهد العام للعقد برمته، وهي خريطة ما زالت غير ثابتة وقابلة للمراقبة إلى الآن.. وبما يشبه لعبة الكراسي وخروج الخاسرين، يشهد العقد الثمانيني هو الآخر خروجاً مستمراً لعدد من (اللاعبين) بفعل عوامل عدة سنحاول إضاءة جوانب منها في فصول لاحقة.

فكثيرون من الشعراء في كل جيل شعري، خرجوا من المشهد، قبل أن ينسدل الأخير منه على الأقل منهم، بل ما زالت فصول مسرحية الإقصاء مستمرة حتى الآن وإن خلف الستار! وهذا هو شأن الشعر دائماً يبقى منه ما يبقى فحسب!

لهذا فإن تسمية الستينيين مثلاً تبقى لصيقة بالصفوة من شعراء العقد الستيني الذين أصلوا مغامراتهم إلى لاحقيهم، وواصلوها معهم دون ادعاء ريادي أو وصائية مرضية.. وكذلك الحال بالنسبة للسبعينات والثمانينات..

فشعراء العقود إذن ينحسرون مع عقودهم، وتخفت أصواتهم حالما (يفعل فعيل فعله) وتولد حالة جماعية أخرى تتجاوزهم أحياناً وتحتويهم أحياناً أخرى، معلنة عن مشروعها، بينما تتواصل إنجازات ( الشعراء ) ـ دون إضافات أو نعوت تمييزية ـ لإنضاج أسئلة الحداثة في الشعر العراقي والعربي عموماً والتي ما زالت أسئلة قلقة تبحث عن أجوبتها منذ الثورة الشعرية الأولى على يد السياب وبقية جيل الرواد.

فقصيدة الرواد مثلاً، اعتمدت في مشروع تغايرها مع السائد الشعري آنذاك، على خرق النظام الثابت للتوزيع الموسيقي للبيت الشعري، واقتراح هندسة أخرى نوعية للإيقاع لتمكينه من استيعاب فضاءات أكثر احتمالاً من القول الشعري المكبوت بفعل حدود الهندسة القديمة وطابعها الاجتراري.

كان هذا بإيجاز أهم إحداثية قرئت، وما زالت تقرأ على أساسها، (خروقات الرواد) للمقدس الزمني، فيما سنرى أن الخروج النهائي على الهندسة الإيقاعية برمتها، باستبدال إيقاع الشعر بإيقاع الشاعر، وتنحية إيقاع المعرفة المنقول بإيقاع الحياة المكتسب، هو عنوان مشروع الاختلاف للجيل اللاحق.

وعلى هذه الأساس أيضاً يمكننا تفسير بقاء التفعيلة كنوع من المقدس لدى الشعراء الرواد ممن عاصروا الأجيال اللاحقة كالبياتي ـ الذي تخلى عنها فقط في آخر قصيدة كتبها قبل رحيله وهي (نصوص شرقية) ـ أو الارتداد المعلن من قبل نازك الملائكة وعودتها إلى التمسك نقدياً وشعرياً بعمود الشعر، أو الوقوف خارج هذا كله تقريباً كما هو الحال مع الشاعر الراحل بلند الحيدري.

فأن يمارس الشاعر اختلافه بوصفه حقيقة أخلاقية كيانية راسخة، فهذا يعني قبوله لمشروع الآخر، المختلف زمنياً ومعطى، والمرتبط بالجذوة ذاتها، لكن في صعود آخر ومسار مختلف.

وبهذا وحده يمكننا التمييز ما بين الصوت المختلف، باستمرار وفي كل جيل شعري، والصدى الذي ( يؤخذ بالاختلاف) كونه نزعة جماعية وشعاراً يبرر له وجوده المبتسر وغير الصريح.

فما إن كادت تترسخ أسماء جيل الثمانينات الشعري في العراق منتصف العقد حتى بدا أن التجربة مجتمعة تنطوي على مشكلات داخلية يمتنع معها إدراجها في سياق خطاب شعري واحد، يقارب تبني المغايرة عما سبقها أو جاورها من خطابات شعرية، أو حتى في درجة مفارقتها للواقع الذي حاورته الخطابات الأخرى.

وتستوي المشكلات التي اعترت هذه التجربة مع ما بدا أن النخبة من شعراء الثمانينات يسعون للتخلص منها سواء في بداياتهم الشعرية أو في رؤيتهم وقراءتهم لتجارب سابقيهم من الأجيال الشعرية العراقية والعربية.

غير أن مصطلح الأجيال الذي ينطوي على تقسيم عقدي، لا يخلو من عسف عندما يُدرجُ شعراء من كل المقاييس ومختلف التجارب في قائمة (جيلية) تزداد ثقلاً باستمرار، وتسقط عنها ـ بفعل الثقل ـ أسماء لم تكد تنضج تجاربها بعد.

وعلى هذا الأساس فإن تجربة كل جيل شعري ـ والثمانينات تحديداً ـ تستدعي مراجعة نقدية جادة وإعادة قراءة وتوثيق، لما قد يبدو وكأنه مكان مطمئن لعدد من الأسماء التي تصبحُ بين الآونة والأخرى، خارج الجيل الشعري لتضع أقدامها خارج الشعر نفسه بعد زيارة ـ يبدو أنها تمت مصادفة ـ لهذه المملكة التي تضيق بالملوك باستمرار!

ولا يتوقف هذا الكلام على الأسماء التي انطفأت تجاربها أو هجرت الشعر إلى أماكن أخرى، بل ينسحب وبدرجة أعلى حتى على أؤلئك (الشعراء) الذين يواصلون (مشقـَّة) الكتابة ولا يضيفون لأنفسهم ولا للجيل ولا للشعر شيئاً سوى مزيد من عناء الاستعادة لقصائد قيلت واستراح منها كاتبوها.

إن إعادة قراءة التجربة الثمانينية بعد أكثر من عقدين على بدايتها مسألة طبيعية ومنشودة سواء في هذا الوقت بالذات أو في أي وقت لاحق، وإلا كيف نفسـِّر ظهور أكثر من مائة شاعر عراقي يدعي كل واحد منهم إنه ( ثمانيني) وكأنَّ ذلك امتياز يمنح مدَّعيه صفة شاعر، فيما كان ينبغي أن يمنح هو  ـ بشعره ـ للحقبة التي ينتمي إليها وهجاً يعبر، معه وبه، إلى المستقبل ممسكاً بجمره ومديماً له ومطوراً باستمرار.

ومراجعة كهذه تستدعي فحصاً دقيقاً وعميقاً لترابية التجربة أصلاً ومفاصلَ تحولاتها وانعطافاتها ـ إن وجدت ـ ومقاربتها بسياق الأحداث التي أسهمت في الترويج لكتابات دون أخرى أو تلك التي اختارت مسارها خارج التلقين والمداهنة، وبين أيدينا في الوقت الحالي على الأقل العشرات من المجموعات الشعرية لجميع الشعراء المعنيين تقريباً بما يتيح لنا تقصي أكثر من اتجاه شعري ينوس بين التقليدي والمجدد، وكل اتجاه يستدعي في ذاته وقفة أطول وحديثاً أشمل.

لقد كان ظهور الأسماء التي مثلت ما يمكن أن نسميه الدم المبكر لجيل الثمانينات، مصحوباً بمشكلات لا تكاد تفترق كثيراً عن المشكلات التي رافقت ظهور الأسماء الأساسية من جيل السبعينات، حيث ثمة خط يشبه التخوم التي ستشكل تماسات لصراعات لاحقة من أجل تحديد الخريطة الشعرية للجيل، هذه التخوم كانت في السبعينات أيدولوجية  تماماً، شعراء شيوعيون وآخرون بعثيون، أو محسوبون هنا أو هناك، كل تقف خلفه منابر نشر وآباء من الشعراء واللا  شعراء أيضاً، ومروجون من العقيدة ذاتها، لكن التخوم مع الثمانينات، وبفعل عدم وجود حياة سياسية بالمعنى المعروف في العراق آنذاك، كانت تخوماً أخرى، وإن أدت إلى فصل حاسم ومحكم هي الأخرى، فثمة شعراء مباركون ومدعومون من المؤسسات الثقافية بالكامل، وآخرون ملعونون ليس ثمة من يدعمهم بالكامل أيضاً!

هنا لا بد أن نشير إلى محاولة تلك المؤسسات (تصنيع) جيل شعري تقطع به الطريق عن تكرار أية تجربة أخرى في ظهور أسماء غير محسوبة وغير مضمونة ومصادرتها،ويبدو أن تلك المؤسسات تعلمت جيداً من تجارب عدد من رموزها الذين خاضوا أنفسهم مفردات الصراع في الستينات وراقبوا تجلياته وامتداداته في السبعينات لذا حاولت إحكام الطوق حول الساحة وعدم السماح بأية توجهات لا تعترف لها بالأبوة وتتقاطع معها، لكن ذلك لا يمكن أن يتحقق عبر الوسائل التي اتبعتها تلك المؤسسات، فلنتذكر تجربة الملحق الثقافي لجريدة الثورة الذي لم يستمر طويلاً، حيث نشر المشرف على الملحق أنذاك الروائي الراحل عادل عبد الجبار، عددأ من النصوص لأسماء جديدة من الشعراء سرعان ما جرى تكريسها عبر الصحيفة ذاتها ومن ثم ليكتمل الاحتواء التام، صارت هذه المجموعة تجتمع حزبياً، تحت مسؤولية عادل عبد الجبار نفسه الذي كتب أكبر عدد ممكن من قصص وروايات الحرب في فترة وجيزة قبل رحيله، فأسماء ابراهيم زيدان وقيس مجيد المولى وعمار عبد الخالق وليث الصندوق وعلي رحماني ولهيب عبد الخالق ـ لا بد من وجود امرأة في الجيل الشعري ! ـ كانت الاستباق الإعلامي لتجارب بدأت تتشكل في الظل آنذاك: ناصر مؤنس وضياء الدين العلاق  ومحمد تركي النصار ـ الذي كانت هناك محاولات لاستدراجه لتلك المجموعة لكنه اختار بموقف يحسب له أن يبقى في الظل الفعال ـ ووسام هاشم ونصيف الناصري وزعيم النصار ، إضافة إلى الكاتب.

في الوقت ذاته كانت تتأسس فيه محاولات أخرى لعبد الحميد الصائح وباسم المرعبي وسعد جاسم وصلاح حسن في ظل آخر هو ظل المحافظات قبل أن ينتقل الجميع دفعة واحدة للدراسة في مكان واحد هو أكاديمية الفنون الجميلة ( قسم المسرح) كانت ثمة مجموعة أخرى تتحرك بشكل يبدو جماعياً أيضاً من ثلاثة رجال وامرأتين! (عدنان الصائغ وعبد الرزاق الربيعي وفضل خلف جبر ودنيا ميخائيل وأمل الجبوري)  وكان قريباً منهم علي الشلاه  وثمة أسماء أخرى، كانت قريبة من هذه المجموعة أو تلك أو حتى بعيدة!: كحكمة الحاج وعلي عبد الأمير ورياض إبراهيم وسهيل نجم ، وسلام سرحان، وكريم شغيدل، وركن الدين يونس وسهام جبار ورباح نوري وآخرين.

هذه الخريطة التي تبدو مترامية الأطراف هي المشهد الملتبس الذي يلخص واقع الحياة الثقافية في العراق آنذاك، خريطة لا بد من رسمها بالتباسها الأولي قبل الشروع في تفريق المتشابهات وفك التباسها برصد الملامح التي أعادت ترتيبها من جديد خلال فترة وجيزة جعلت من كل مجموعة تنحو بالفعل نحو توجه معين في الكتابة والفهم الشعريين، وفي الموقف إزاء ما كان يجري في البلاد في مرحلة مهمة من تاريخها أعني الحرب العراقية الإيرانية التي كانت واحدة من الوقائع الاستثنائية في تشكيل الوعي الوجودي لدى هؤلاء الشعراء.

لكن هذه الخريطة الملتبسة نفسها سرعان ما تخلخلت من جديد مع تحرك دفقة دم آخر من الفصيلة ذاتها في نبضها شكله عدد من الشعراء في مراحل متتابعة وقريبة ومتقاربة في الوقت نفسه: كأحمد عبد الحسين وكاظم الفياض وفاضل الخياط وشعلان شريف وخالد جابر يوسف وحازم لعيبي وحسن النواب  وعلي حبش وريم قيس كبة ويوسف اسكندر وعلي مزهر ـ الذي لم ينشر في العراق ـ  وإيمان محمد وكريم جواد وآخرين. وبين هؤلاء من جاء بموهبة شعرية لفتت له الأنظار منذ القصيدة الأولى  ـ أحمد عبد الحسين وكاظم الفياض ـ مما أعطى المشهد العام للجيل حيوية أكثر، مقابل رداءة مثلتها تجارب في كل من المجموعات الأرخبيلية إذا صح التعبير.

ثمة ظلال واضحة لصراع من نوع آخر إذن، صراع يستمد من الطبيعة الإنسانية ومن تاريخ الأدب ومن تراث السلالات السابقة أيضاً مبررات استمراره، ولا يمكننا أن نغفله أو نتحاشى الخوض فيه، تحت أية ذرائع غير واقعية ما دام يشكل سمة مهمة في دراسة أية مرحلة من مراحل تاريخ الأدب العربي والحياة الثقافية عموماً.

غير أن دوائر هذا الصراع وإن بدت ضيقة للوهلة الأولى لكنها، ستتسع باستمرار لتشمل تخوماً أخرى، وسط تحالفات وتحالفات مضادة، في جو مشحون بعنف مختلف الصور، وبانمحاق الفرد لصالح جماعة ما: سلطة أو منطقة أو عشيرة أو طائفة بدت بديلاً عن التجمعات السياسية المحظورة.

الجيل الضائع

لم يكن التقسيم العقدي للأجيال الشعرية في بلد كالعراق كافياً لاستيعاب جميع من كتبوا أو نشروا قصائدهم خلال هذا العقد أو ذاك! فإذا ما كان عدد من الشعراء سينتمي بقوة إلى جيل شعري معين، لا لأنه يشترك زمنياً في اقتراح خطاب شعري خاص بفترته، أو يسهم في دفع المغامرة الشعرية إلى عوالم وتخوم أخرى، بل لأنه يختار أن يواجه مع أقرانه ( مصيراً شعرياً مجهولاً!) على أنه، في لحظة ما، سيجد نفسه خارج المسار الشعري لتحولات الجيل، وربما خارج المسار الشعري برمته.

ومع هذا فإن طرفي (العقد الشعري) يضمان بينهما شعراء يتجاذبهم عقدان من السنوات ـ سابق ولاحق ـ ولا يكاد أي منهما ينص عليهم.

فبين عقدي السبعينات والستينات شعراء لا يمكن تصنيفهم على وفق مقولة الأجيال الشعرية، وكذلك الحال بين الجيلين السبعيني والثمانيني، فثمة شعراء عدة على طرفي أحد العقدين أو خلال أحدهما لكنهم توزعوا أما إلى سبعينات أو ثمانينات، ومنهم ظل ( كأهل الفترة) بين الجاهلية والإسلام لم تصلهم رسالة أي من الجيلين، فاحتار النقد الأدبي في تصنيفهم مثلما اختلف الفقهاء في حكم أهل الفترة وكيفية حسابهم وتقييم أفعالهم!

وعلى هذا الأساس يمكن تسمية من بقي من هؤلاء الشعراء بشعراء الجيل الضائع، فأسماء مثل عبد الكريم كاصد ونبيل ياسين وحسين عبد اللطيف وعلي الطائي وعيسى حسن الياسري ظهرت ما بين جيلي الستينات والسبعينات، وكذلك أسماء مثل حميد قاسم وعادل عبد الله وعبد الزهرة زكي وزيارة مهدي ونوري أبو رغيف بعد السبعينات بقليل وقبل الثمانينات بأقل، لكن منهم من عد من شعراء الجيل السابق ومنهم من اختار الوقوف بين الجيلين ومنهم من استأنف بحثه عن مكان مع التالي من الأجيال فاندمج بها.

الثمانينات نفسها لم تخرج عن تضمنها منطقة ( أعراف ) الشعر العراقي.. حيث المكان الثالث ما بين الجنة والنار، وهو المكان الذي لم يزره أبو العلاء المعري في رسالة الغفران ليرصد فيه عدداً من الشعراء.

فقد شهدت الثمانينات اندفاعات عدة من الشعراء وكان فارق السنتين أو حتى السنة الواحدة في الظهور أحياناً ذا أثر في توثيق أسماء الجيل.

ولهذا فثمة شعراء ظهروا في نهاية العقد الثمانيني لكنهم لم يسهموا في دعم المشروع نصاً وتفاعلاً واصطداماً وحواراً مع السابق الشعري في إطار المجابهات المعهودة في الشعر العراقي بين اللاحق والسابق، هؤلاء كتبوا قريباً من عالم النص الثمانيني الذي كان يتلمس حتى ذلك الوقت خطابه الخاص، أو كان في مراحل التجريب والمشاكسة والإعلان المقصود عن الاختلاف.

وفي التوثيق لأي جيل شعري لا بد من مراجعة السيرة الجماعية ومدى فاعلية الأفراد فيها، ذلك أن النشاط الفردي مهما بلغ من إنجاز وتميز، يسعى، بأكثر من وسيلة إلى الالتصاق بحرارة في معمان التجربة، يغنيها ويفتح أمامها كوى أخرى ـ ولا أريد أن أقول يفتح أمامها آفاقاً أخرى ـ  ويحرضها على الاندفاع، إنه نوع من التنافس المشروع والطبيعي للبقاء في الطليعة أمام تعدد وتنوع ينطويان على أكثر من مستوى وأكثر من اتجاه.(2)

وفي مطلق الأحوال ليس شعراء ما سميناه مجازاً ( الجيل الضائع ) ضحايا الشرط الزمني الذي لا يخلو من عسف ـ لكنه طبيعي في الوقت نفسه ـ وهم ليسوا كذلك بكل تأكيد. لكن منهم من يضيع جهده الشعري في الالتصاق القسري بالنص المنجز لسابقه أو لاحقه دون أن يكون من بين فرسان أي منهما أو طليعته إذا ما أجرينا مقارنة معيارية لتراكم ونوعية العطاء بما يسهم حقيقة في بلورة إرهاصات هذا المنجز. وبهذا يضيع تحت وهج النص الأصل، ومنهم من يستثمر لا انتماءه للتقسيم العقدي فيخلص من شوائب سواه ويخلق أجواءه الخاصة خارج اللعبة المعتادة فيحقق انتماءه الأصعب للشعر، بعيداً عن ( تابو) التقسيم العقدي، وبهذا يخرج من( الفترة ) إلى المرحلة تاركاً أقرانه ضائعين لا بين جيلين شعريين فحسب بل بين الشعر واللا شعر. 

    

شعراء المحافظات

هناك أيضاً داخل تفاصيل الخارطة المتلبسة القوانين والحدود والمساحات، مناطق أخرى ينظر لها الوسط الأدبي في العراق خلال الثمانينات، بوصفها حيزاً آخر ينطلق منه أو ربما يبقى داخلها ورهينها صنف آخر من الشعراء، وهذه المنطقة محكومة بالجغرافيا هذه المرة، أنهم شعراء المحافظات.. ولنا مع جسامة هذه التقسيمات أن نتصور حجم الشعراء الذين يظهرون في العراق بما يجعلها ـ التقسيمات ـ تتفرع هي الأخرى وكأننا ندرس تاريخ أدب لا يخص بلداً واحداً!

ففي طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي ( عبد الله بن محمد بن سفيان بن قيس 281 هـ ) مثلاً ثمة تصنيفان أحدهما يتخذ من المستوى الفني معياراً للتصنيف فيدرج كل مجموعة في طبقة ابتداء من الأولى وحتى العاشرة، والأخر يعتمد على التوزيع الجغرافي، فيذكر شعراء الحجاز والبادية، والطائف وسواها، وثمة أيضاً ما اصطلح عليه ابن سلام بشعراء القرى، وذكر شعراء لم يسطعوا بشكل نافر وقوي إلا بعد تماسهم مع المراكز والمواسم الشعرية، فيما ظل آخرون في الهامش بشكل ما، ليصبح ذاك الحال سمة من السمات العامة التي انسحبت بظلالها على طبيعة أشعارهم.

وفي العراق كذلك ثمة شعراء لم يتح لهم ابتعادهم عن المركز التماس مع مركزية الثقافة في العاصمة التي تتبلور فيها سمات الجيل الشعري، من تقاليد الحوار والقرب من الصحافة والأنشطة وغيرها. ـ أقصد بالتمركز هنا مستوى تداول النشاط الثقافي وليس طبيعة إنتاجه ـ

لكننا قد نجد لدى شعراء القرى الذين ذكرهم ابن سلام مستوى فنياً يضاهي قصائد شعراء الطبقات العشر وكذلك شعراء المراكز الشعرية المعهودة، فرغم أن شعراء القرى هؤلاء امتازت أشعارهم بتوثيق وقائع المسلمين في عهد النبوة، إلا أننا نجد بينهم من تنطوي أشعارهم على مستوى فني يضاهي العديد من شعراء الطبقات الأخرى الذين يعترف ابن سلام بأن تراجعهم إلى طبقات أخرى كان بسبب لا يتعلق بطبيعة ومستوى شعرهم، بل لقلته! فيرى أن وجود شاعر كطرفة بن العبد أو عبيد بن الأبرص في الطبقة الرابعة لقلة المروي من شعرهم رغم أنهم برأيه( فحول) وموقعهم مع الأوائل.

وينسحب هذا الكلام ، كذلك على شعراء المحافظات في العراق من أؤلئك الذين لم تستهوهم أضواء المدينة تماماً ـ على الأقل خلال الثمانينات.

غير أنه ينبغي التنويه هنا إلى  أن العدد الأغلب والأعم من شعراء الثمانينات هم من المحافظات أصلاً لكنهم اختاروا الإقامة في بغداد سواء فترة الدراسة أو حتى بعدها فكانوا جزءاً أساسياً من ثقافة المركز  بانجذابهم إلى صخبه وإصرارهم على دخوله رغم ازدحامه، بملامحهم هم (عبد الحميد الصائح من الناصرية سعد جاسم وباسم المرعبي من الديوانية وصلاح حسن من الحلة)

هؤلاء الوافدون بثقة إلى العاصمة أسهموا في إضفاء دم آخر دورة الحياة الثقافية في المركز، مستفيدين في الوقت نفسه من تقاليد المركز القائمة على تراث قوي من الاجتهاد وكذلك الحوار والصراع معاً وسواها من التقاليد الراسخة.

مصطلح ( شعراء المحافظات ) إذن ليس بدعة أخرى، بل إنه حقيقة واقعة، لها مميزاتها وأخلاقياتها وطبيعة علاقاتها مع ثقافة المركز. حتى أن الدوريات الثقافية دأبت على تقليد آخر وهو نشر ملفات عن كل محافظة، وجد فيه بعض الشعراء وسيلة للفت الانتباه لهم داخل هذا التصنيف فيما امتنع آخرون عن الاشتراك به كي لا يتم تحديدهم ضمن هذا التصنيف.

الذين ظلوا محافظين على وجودهم داخل الإطار لم تسعفهم مواهبهم المحدودة وإمكاناتهم المتواضعة أو ربما انحسار إخلاصهم للشعر، على المتابعة في الطريق الطويل والمتعب، كما أضعفت  هذه الأسباب من قدرتهم على التواصل مع المركز.

في الوقت ذاته فإن نماذج أخرى من شعراء المحافظات امتلكوا مواهب حقيقية ودأباً واضحاً على التواصل والحوار، لكن  مزاجهم الهاملتي إن صح التعبير، والتردد الذي يحكم شخصيات عدد منهم جعلهم يفضلون الانزواء والرضا بما هم فيه. وهنا لا بد أن أنوه إلى نقطة أخرى ضرورية وهي إن إشكالية الجيل هي ذاتها إشكالية الكتابة نفسها، حيث تتماهى التجربة بالتأليف ومثلما لا يمكن للنص المجرد أن يخلق كاتباً مهماً.. فإن الانزواء لكتابة النصوص فحسب والزهد بالحوار وما يقدمه من اجتهاد إزاء الراهن قد تخلق كاتباً ولكنها قد لا تضعه في متن شعري معين. بل تجعله هائماً أو متنزهاً في تجارب أخرى في أحسن الأحوال.

فكان شاعر كعلاوي كاظم كشيش مثلاُ ـ وهو شاعر شاب من كربلاء بدأ حضوره في النصف الثاني من الثمانينات ـ أسير النموذج الشعري لمحمود درويش بناء وتركيباً ولغة وموسيقى بشكل لا يجعلك تفرق بين قصائد (الشاعرين!) وكلما ظهرت قصيدة جديدة لمحمود درويش  ظهرت بعدها بقليل أخرى لكشيش وكأنه يؤكد إن التقليد هو شرعة ومنهج شعري  خاصة عندما يجعلك تشبه شاعراً كبيراً كمحمود درويش، الذي يبدو أن علاوي كاظم كشيش لا يستطيع قراءة شاعر سواه.

نموذج آخر لكنه مختلف لشعراء المحافظات هو طالب عبد العزيز الذي كانت قصائده الأولى نسجاً على نول سبعيني وقريباً من خيامهم.. لكن سرعان ما نأى عن ذلك عندما تنبه إلى خصوصية التجربة ناسجاً تحت خراب البصرة الجديد ثوباً لا ينقصه غبار المعارك، فاندرج صريحاً في تجربة الشعر الثمانيني شكلاً في القصيدة وتوجهاً في المضمون رغم عدم اشتراكه في أرهاصات الملامح الأولى للتأسيس ـ أعني الشعور الكياني بأهمية المغايرة لجيل لاحق عن السابق ـ.

ثمة شعراء آخرون تنبغي الإشارة لهم في هذا السياق، مع تباين درجة مساهماتهم، وهم جمال جاسم أمين وماجد البلداوي من العمارة، وعبد العظيم فنجان وعلي البزاز من الناصرية ورعد فاضل وعادل مردان من الموصل.

ولا نريد هنا التفصيل في ثنائية المدينة/ الريف، وارتباط كل منهما بمشروع الحداثة والتأسيس لها، لكن لا بد من التأكيد على أن في كل جيل شعري عراقي عدداً مهماً من الشعراء الذين يخترقون العاصمة وعصمة ثقافتها ويتركون أثراً واضحاً من حياتهم وتجاربهم وإبداعاتهم وربما حتى خطاياهم/ وهنا فقط تصبح ثقافة العاصمة مصطلحاً عائماً بفعل تداخل فعاليات عدة أفراد في تكوينها.

ثمة أسماء أخرى، لم تكد أسماؤهم تتشكل بعد داخل العراق، حتى عبروا الحدود، بعد حرب الخليج الثانية، إلى دول مجاورة، ورغم أن تجارب عدد من هؤلاء كانت لا تزال في المخاض العسير وترافقت مع حالة هيمنة مثقفي السلطة على المؤسسات الثقافية في البلاد بما لم يسمح لظهورهم الإعلامي، إلا أن التجربة الحياتية التي عاشوها في معسكرات ومخيمات اللجوء، خاصة في صحراء رفحا  في المملكة العربية السعودية، كانت الولادة الحقيقية لعدد من أسماء هذه المجموعة كصلاح الحيثاني وفلاح الصوفي وحميد حداد وعلي شايع وصادق زورة والذين كان أول إعلان صريح عنهم من خلال مجلة واحد التي أصدروا منها بضعة أعداد في أوروبا وتحديداً العدد الأول 1997 تحت تسمية جيل ما بعد الثمانينات.

وكان يمكن لهذه التجربة وأعتقد أن ذلك الإمكان ما زال قائماً، أن تضفي سمة خاصة على شعر أصحابها وأن تنعكس التجربة الصحرواية النادرة لهؤلاء في شعرهم وطريقة تفكيرهم وهو ما بدا يتوضح بشكل أولي ما في الرسائل والنصوص التي كانوا يرسلونها من الصحراء، قبل أن تكر مسبحة الشتات من جديد وتعيد توطينهم في أماكن أخرى.

ورغم أن الشعر لا يخضع بالنهاية إلى التسميات ولا التصنيفات ولا حتى المدارس لكن النقد ومنهجه، وكذلك المضامين والعناصر الراشحة عن تجارب شعرية معينة دون سواها، ألقت بظلالها القوية على شعر بعض المراحل، ومنحته تسميات خاصة..

وإذا كان جيل الثمانينات في العراق قد ارتبط بوقائع الحروب والكوارث وتفاعلاتها، مما منحه تسمية جيل الحرب، فإن الجيل الذي تلاه، أعطته الوقائع الأخرى التي لا تقل كارثية وقسوة، اسماً افتراضياً آخر، لارتباطه بمتاهات جديدة في الصحارى والأصقاع، بلا بوصلة واضحة، وكأنها بذلك يتناسب تماماً مع القلق الذي بدت عليه تشكلات هذه التجارب التي لم تخضع تماماً لتقاليد التكون العَقدي للأجيال الشعرية في العراق.

 

 


1يرى إين خلدون:

(أن الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته قال تعالى : (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة) ولهذا قلنا إن عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل ويؤيده ما ذكرناه في حكمة التيه الذي وقع في بني إسرائيل وأن المقصود بالأربعين فيه فناء  جيل  الأحياء ونشأة  جيل  آخر لم يعهدوا الذل ولا عرفوه فدل على أن اعتبار الأربعين في عمر الجيل الذي هو عمر الشخص الواحد.) مقدمة ابن خلدون (عبد الرحمن بن خلدون بن محمد الحضرمي ) الطبعة الخامسة دار القلم ـ بيروت 1984 ص 29.

 

(2)(لا بد من التنويه هنا إلى وجود تجارب أخرى لشعراء عراقيين بدأوا في العراق لكن تجاربهم ترسخت في المنفى، وقد سبق لي أن أعددت ملفاً عن جيل الثمانيات في العراق لمجلة الكتابة الأخرى المصرية نشر في عددها المزدوج 12 ـ 13 ـ 1996.. وكانت ضمن الملف شهادة لأحد شعراء هذه المجموعة وهو الصديق الشاعر جمال مصطفى المقيم في الدانمارك  لكنها لم تنشر ضمن الملف المذكور لأسباب أجهلها.. وهؤلاء الشعراء كما جاء في تلك الشهادة هم: رعد مشتت، حميد العقابي، جمال جمعة، خالد المعالي، مهدي قاسم، عدنان الزيادي، كريم الأسدي، سعيد ياسين، سمير السعيدي، فائز العراقي، منعم الفقير، هاشم العراقي، والراحل قاسم جبارة ، واسماء أخرى.)

 

  ارسل هذه الصفحة الى صديق

اغلاق الصفحة