نملة تشاكس 

نص مفتوح

وفي نهاية المطاف وجدتني هنا نملة بين الصقيع ودم المسافات. لم يكن عبثا طريقي ولاعشقي معصية اخرى، واخرى واخرى....لا، لا معاصي ارتكبتها، لا تصدقوا، معصيتي أن عيوني لها شكل القمح ولون شعري ليس بلون السنابل، السنابل التي يزرعها جدي، ويحصدها حفدة الصراصير، اولاد ال.... 

الا انني نملة والديناصور انيق، حليق، متمدن، سوبرمان، ويُصدّر مؤخرا همبرغر مُحدّثْ " ants with mustard and fresh blood"

ويكمم صوتي بشريطة حمراء ملخصها " ممنوع العبور "

ربما ليس تاريخ هذه الواقعة مهما ولكن هكذا بدأ نبض المخرز الاخر في صدر النملة .

وقفت ُ امام المرآة، اعتمرت قبعة جميلة اخفيت ُ بقايا الشعر الاسود تحتها، نظرت برضا الى قامتي .... تلفتُ يمنة ويسرة استنطق الشعور بالرضا عن جمال مظهري وجدوى فعلتي الاخيرة هذه ‍‍‍!

لا بأس ينقصني ايضا نظارات شمسية وسأبدو مثلهم _ اليست النظارات أيضا تمارس ارهابا نحو الاخر؟ والا لماذا يحصل، كلما كلمني أحدهم من خلف نظارة سوداء، تمتد يدي بكل عفوية لتخلع نظارته  : هيي .. أنتَ... انظر الي، ضع عينكَ في عيني وأنت تتكلم ! انا هكذا لاأستطيع أن أكلمك وتكلمني من خلف حجاب ..... وكم حجاب يجب أن أكسر لأصل اليكَ، لتصل الي ... معاذ الله لست اقصد سوءا، أقصد أن تراني كما أنا نملة وأكثر من ذلك بقليل. واسمح لي بالمقابل بالغوص في عينيك، علني أعشقكَ – فرضا - 

 

كان الوقت منتصف الليل، اوقفونا على الحاجز، حاجز العبور من كندا الى امريكا (الله)! خلية من نمل من كل الاجناس والالوان والأعمار، ويجمعنا اكثر من يقين، وايضا حلم متعدد الاطراف، ممسوخ، مدمى، متشظ ...

اصطففنا بنسق متواتر القسمات وكل يحاول أن يخفي خلف ابتسامته، هواجس وتوقعات ممكنة، شرسة بالطبع

 

المحقق امام الهه – اقصد الكمبيوتر – بصوته الذي له رجس السوط على ظهر حمار ايوب، راح يصرخ بنا: من هو قائد هذه المجموعة ؟ ولماذا انتم هنا وتريدون اجتياز الحدود ؟

 

وقف " جوردي " في المقدمة، عدّل طاقيته على رأسه، أخرج يديه من جيبه- كنت ارقب الوشم الذي على ساعده، لا ادري هل هذا مرده فضولي الشرقي، ام شيئ اخر؟

 

جوردي : احم ...احم ...-ومبتسما-  انا قائد هذه المجموعة، جئنا من اجل مظاهرة سلمية ستجري صباحا في ساحات واشنطن من اجل ايقاف الحرب، من اجل السلام والعدالة، سنلتقي مع رفاقنا هناك، سنكون مسالمين طبعا ونعود في ال.... 

- المحقق : كفى، كل مكنم يخرج بطاقته الشخصية ...اقفلوا هواتفكم الجوالة ايضا ....

وبدأ استجوابنا واحدا.... واحدا ... واحدة ... واحدة

- انتِ ما أسمك، واسم عائلتكِ ؟

- ابتسمت مع شيئ من البلادة : نملة رقم 19

- تاريخ الميلاد ؟

 - لااذكر ... أعتقد انه مسجل هناك في الأوراق التي أمامكم

- بلد المنشأ ؟

- قطر عربي يجري فيه دجلة والفرات والعاصي، وعندنا شاعر كبير اسمه " ديك الجن " و.... 

 

- اها ....عربية ؟ ... اجيبي على قد السؤال - بما معناه اخرسي –

- وماهذه الكاميرا، ستصورين المظاهرات، لمن سترسليها ؟.. 

- سيدي، هل صدر قرار بمنع تظاهر النمل، وبمنع النمل من تصوير الحياة ؟

نظر الي باشمئزاز وهو يقول it is nasty : وهو يمعن النظر في محتويات حقيبي، وبعض الاوراق التي فيها.

- اذهبي الى هناك، انتظري جانبا، سيكون لنا معك حديث اخر .

( اخذ كل الاوراق الشخصية والاوراق غير الشخصية واسترعت اهتمامه، جداً، الورقة البيضاء التي أحملها في حقيبتي، لزوم قصيدة محتملة قد تهطل على غفلة، أو لكتابة عناوين مهمة وقد يكون بينها احتمالات معجب مثلا ...) 

رفع الورقة امام نظارته، رفعها صوب الضوء، لم يتبين شيئا، اخذها الى الغرفة المجاورة...

والله اعلم مازال فعلوا بورقتي البيضاء تلك، أبتسِم في سري  " تعيشي وتاكلي غيرها " 

- سيدي ديناصور( بيني وبيني طبعا ) : أريد ان اشرب، انني أختنق، هل لديكم حمام لو سمحت ؟ انني ....

نظر بحنق: قلتُ لك اذهبي واجلسي هناك وسنعود اليك، عندما نفرغ من الحديث مع  الاخرين.

 

بعد قليل، أتت الى جانبي نملة شقراء لم يسمح لها بالعبور ايضا، ثم اخرى ، .... وآخر... وآخر ... نمل كما قلت لكم، من كل الالوان، جمعنا حلم البحث عن السنابل، عن الحنطة المسروقة، ربما اتقاء مجاعة منتظرة، أوتحسبا لهول القادم من جريانات دموية.

 

عزيزتي نملة (س) : هل لديك علكة، سأموت عطشا ؟

تذكرتُ ان مضع العلكة ينصح به احيانا لازالة الضجر والحزن.

أعطتني العلكة بكرم، بادرتها ب thank you dear .

ايوب رقم2 الذي بجانبي، مخنوق بريقه أيضا : طلب مني قطعة من العلكة التي استجديتها للتو، ضحكتُ وانا انظر اليه: ولكن لا اسنان لديك، لماذا تريد العلكة ؟

أجاب : أفضل من أعلك لساني وأموت مسموما، وضحكنا بصوت عال فنظروا الينا -اقصد الذين وراء الحاجز الذي يكملون التحقيق مع باقي النمل الذي أراد الانضمام لمسيرة السلام وضد الحرب، واراهم الان هم ايضا كما خلية دبابير، يعملون والتكشيرة سيدة وجوههم.

 

قل لي يا ايوب رقم 2 : أما زال ظهرك يؤلمك من عناء الرحلة وركوب الباص وأنت في هذه السن ؟

لا يا ابنتي نملة 19... لست مُسنا كما تعتقدين، ولكنني متألم من سُنن هذا العالم الذي أرهق ظهري والحمدلله لم ينكسر بعد  ... ولا يغرك الكرسي الصغير الذي حملته معي من البيت لضرورة ما، هذا ما افعله ايضا عندما اخرج للمشي، اخذه معي! الكراسي مهمة دوما ...

 

صمت ُ، وكم كنت قلقة. اخرجت علبة الماكياج من حقيبتي، ورحتُ أخط بأحمر شفاه قانٍ ما تبقى من شفاهي التي لم تبتلعها الحواجز وتذكرت نصيحة احدى صديقاتي لي في زمن مضى كانت تسخر مني وتقول: كلما شعرت بالغيظ والقهر والتعاسة، ضعي أحمر الشفاه الصاعق، ألبسي حذاءا رياضيا وأركضي في اقرب مساحة على مد بصرك، الى ان ينطفئ احساسك بكل شيئ ..وستكونين بخير اذا حاولت الرقص ايضا . امتلكتني رغبة في الركض ولكن ...

نظرتُ حولي، لم ار الا زجاج وزجاج وزجاج ، تخيل الي انه سينغرز في لحمي، رغم المسافة بيننا ورغم انه يبدو متماسكا ومصقولا، لامعا وحياديا.

 

خلعتُ قبعتي، ورحت أفرد خصلات شعري الاسود بنزق خفي هذه المرة، وانا اواصل العَلك ،أقصد مضغ العلكة، ولاحظت أن الجميع يمضغ.

ابتسمتُ وأنا احدث نفسي: هل هذا موقع للتظاهر للمطالبة بالعلكة والاجترار...ياللموازين حين تفقد الذراع .

 

التفتَ الي، ايوب رقم 3 ، كان يركّز الكوفية الفلسطينية حول رقبته ويضع يديه بين ثناياها، يريد ربما ان يستنطق دفئها، وكان الصقيع ينبعث من الوجوه والجدران ... رغم اننا كنا نحاول ان نرسم ابتسامة ميكانيكية بانتظار التحقيق الاخير، واحتمال ان يسمح لهذا النمل الاشقر والاسمر بأن يواصل طريقه، أو يعود من حيث أتى .

 

نبشوا أوراق الجميع، سجلاتهم من خلال الكمبيوتر، تواريخ ميلادهم، بلادهم الاصلية...بعنجهية صادحة جاء محقق آخر :

أنتم، الذين هنا، ستعودون الى كندا، الان، وهذه بعض الاوراق توقعون عليها قبل مغادرتكم .

 

وقف " جوردي" الى جانبنا: حسنا يا شباب، هذه بعض النقود ، لزوم الطريق الى كندا، نأسف حقا لانكم لكن تكونوا معنا، ولكن لا تبتئسوا هكذا، سنصرخ في شوراع واشنطن، عنا وعنكم وعنهم ...ثم صافحنا بحرارة وقلق ..الى اللقاء.

 

أنا النملة التي أرتبك من خيالات الهجانة، فكيف الآن وأنا في حضرتهم.

ماذا اصابني ؟! رأيتُني أضحك، أبكي، أغني، أقفز كما قرد فقد ذاكرته وهوعلى حبل سيرك،  أغني بيني وبيني، وأنا أراقب الباص المنطلق صوب جارتنا امريكا ...

 

أعتَقونا، عفوا أجبرونا على العودة. خرجنا من قفص الزجاج الى الساحة، ننتظر سيارة اجرة تقلنا الى بيوتنا ...

 

تدفق صوت ايوب 2 وايوب 3 بالغناء ايضا، ووجدتني معهم أردد :

" اناديكم، أشد على أياديكم، وأبوس الارض تحت نعالكم وأقول افديكم ......" !

كان الباص يبتعد مرتبكا والنمل الذي حالفه الحظ بالعبور يلوح لنا بمودة، بعيون زرقاء خضراء وحمراء ...واقسم انه كان هناك كثير من عيون حمراء ...

صوت من الجهة الاخرى صاح بنا : اخرسوا- لو سمحتم -

 

ايوب 2 بدأ يغني : وقفوني ع الحدود وقال بدهم هويتي ...." ونسيت ان اشير الى ان بعض النمل الاشقر، خائبا عاد معنا لاعتبارات اخرى ولكنه كان اقل انفعالا منا نحن النمل الاسمر.

 

خطر لي هذا الغناء " يما مويلي الهوى/ يما مويليا/ ضرب الخناجر ولا حكم النذل بيّ..." ، وركبنا طريق العودة .

كان قد أصبح بيننا وبينهم الان فقط شلالات نياغرا. ياالهة الطبيعة، ياالهي، كيف لي – وانا النملة- أن أتأمل في وضح الليل هذه اللوحة الباذخة السحر، الطبيعية...

هل يدرك الشلال الالهي هذا ما يجري بين يمناه ويسراه ؟  هل يدرك الديناصور الذي هناك، ان شلالات  نياغرا لوحة رائعة للطبيعة التي لا يمكن دحرها، أو ايقافها عن التدفق ....

أسئلة كثيرة تخطر في ذهني .... وأريد اقناع نفسي وأقناعكم ، ان شلالات نياغرا لا تخضع للرقابة، ولا تسير حسب اهوائهم. تتجمد أحيانا بفعل انخفاض الحرارة ، وتفيض بالجمال عندما تأمرها أمنا الطبيعة، وستبقى هناك شاهد أبدي... وثيقتها الوحيدة اتحاد ذرات من الاكسجين والهيدروجين بنسب مشروطة. اصالتها وعنفوانها، كونها ماء له هذه الصفات العجيبة، تمر بين ضفائرها،العاصفة وسياطها، الدفء وأصابعه الحنونة، تنساب في ذراتها، أحلام الاخرين الشاهقة، الهادرة، الباحثة عن حياة ندية، متدفقة، عنيدة ،زرقاء متسعة بحجم السماء وصخب البحر ...

 

هل للهباء من نهاية ؟ 

هل حدث كل هذا حقا ؟!

كفى، هل ستسألوني أيضا، ولماذا النمل لا يكف عن مشاكسة الديناصور – الله- والطرق الوعرة ؟

ومن تقصدين ب الله ؟

ومن تقصدين بالنمل من كل الالوان، ومن تقصدين بأيوب ؟

 

تبا للمهازل، دعوني الان، الا يكفي كل الاسئلة التي اعترضتني واعترضتها منذ أن ترعرت في بيوت النمل .

القمح فائض، يكفيني ويكفيكم ولكن ما وجه الشبه ما بين المحقق والصرصور ؟!

 

جاكلين سلام / كندا

24-04-2002

جاكلين سلام شاعرة سورية مقيمة في كندا

  ارسل هذه الصفحة الى صديق

اغلاق الصفحة