** درب الفضة **   رياض كاظم

* ست الحسن *

 

عشية عيد الاضحى وصل (( فنان الذكريات )) . كنا على سطح المنزل انا وشقيقتي قمر , نراقب ابي وهو يذبح نعجتين كعادته في مثل هذا الوقت من العام ... النعجة الكبيرة من حصة قمر والاصغر منها حصتي بالطبع . كانت قمر تكبرني بعامين , سبقتني الى عالم المرأة بعامين فقط فأكتمل جمالها وامتلأ ردفاها وثار نهداها كبتلة اريانت عني بسقيها فبزتني بجمالها , جمال الانثى المكتمل فتخلصت من خيط الحرير الاصفر الذي يربطها بالمطبخ . اما انا فكنت اكافح لكي ابدو مثلها , فبدل الرمانتان اللتان تحملهما على صدرها . كنت احمل ذلك البروز الصغير المثير للشفقة والذي كنت احشوه بالقطن لكي يبدو اكبر . لا لشئ . فقط لاريها اني جميلة ايضا لكني تأخرت عنها بعامين . ولولا هذا لما وقع اختياره عليها .... ان للرجال اذواقا سقيمة فهم لايميزون بين كيس حلوى وكيس صفن .

ولدنا سوية انا وقمر في هذا المنزل الكبير الذي توارثناه ابا عن جد ... فيه ولد الجميع وفيه ماتوا . لم يسبق لاي منهم ان غادر الى الخارج , فما حاجتهم للمغادرة ماداموا غير قادرين ولو افنوا حياتهم على استكشاف كل غرفه وممراته وابهائه واسواقه وناسه . ما حاجتهم للمغادرة والبحث عن عالم آ خر مادام عالمهم الاصلي الذي ولدوا فيه غير قابل للكشف , فالغرفة التي تؤدي الى الممر او الجيران او السوق قد تؤدي الى دهليز مظلم يؤدي الى الضياع والحيرة . العلامات والرموز التي تركوها على الجدران زادت من ابهامه ولم تؤد الى الا المزيد من الضياع , فكلما شب احدهم وجربت قدماه مغامرة الابتعاد عن طريقه المألوف وضع علامته الخاصة التي لايعرفها احد سواه . فاختلفت العلامات والرموز واختلف معها المنزل الكبير الذي يدعى الناصرة .

كانت الناصرة هي هذا المنزل , والمنزل هو الناصرة ولااحد يتذكر من وضع اول لبنة فيه وبنى الغرفة الاولى والثانية والثالثة فاصبحت منزل صغير . احتاج المنزل الى بهو ومطبخ ومضافة واحتاج الاطفال الذين كبروا الى غرف اخرى ومطابخ ومخابئ طعام ... سعار البناء العشوائي الذي لاينتهي احتاج الى  ممرات لايصال الغرف ببعضها والبيوت الصغيرة بالبيت الاصلي الذي لم يتوقف فيه البناء فتداخلت الغرف والبيوت والممرات وصنعت تلك المتاهة المحيرة التي اخذ فيها الابناء بالضياع بعد موت الجيل الاول من البنائين العشوائيين .ولم يبق منهم سوى الجد عبد القدوس نافذتهم الوحيدة لمعرفة تاريخهم وانسابهم وموتاهم . من غرفته التي كانوا يواضبون على التواجد فيها . كانت تتم صفقات الزواج والبيع والشراء وطرق حماية البيت وطرق اختراقه ايضا .

في كل غرفة مسمار وخيط او حبل يربطه من يريد الخروج الى ساعده ويذهب بمشواره المثير في متاهات المنزل الى الوجهة التي يريدها . ربما يصل او يعود خائبا وربما يلتقي باخيه الشقيق صدفة والذي لم يره منذ زمن طويل , فيبيت عنده ليسمع منه اخبار الاخوة التائهين وما نوع الخيوط التي يربطون بها انفسهم . فاذا كانت من الحرير فهذا يعني انهم اصابوا حظا من الثراء , وكلما غلظت الخيوط ازدادوا فقرا وقصرت مشاويرهم , وربما ماتوا ولااحد يعلم عنهم شيئا .

في هذه المتاهة ولدت مع شقيقتي قمر ومازلت اعيش فيها , اما الاخرون الجيران وابناء العم  والاقرباء فقد غادروا المنزل الى العالم الخارجي في ظروف سنوات قليلة , بعد اكتشاف درب الفضة .

اكتشفوا الباب الذي يقودهم الى الخارج فادهشتهم الصحراء والمدن الحقيقية التي لاتبعد عن مدينتهم كثيرا فاطلقوا لسيقانهم الريح بعد ان اصبح المنزل سرا مفضوحا . او ربما تاهوا في هذه المتاهة كما يعتقد من فضل البقاء على الهجرة .

ولدنا في هذا المنزل وسوف لن نغادره لان ابي لايثق بالخارج كثيرا ومازالت ترعبه فكرة مغادرة المنزل . اذ ان العالم هو الناصرة , والناصرة هي المنزل الكبير الذي يدفع عنه الاخطار ويحميه , ومازال متمسكا بخيوط الحرير التي تربطنا الى غرفنا , ولم تزعجه حكايات المغادرين عن عالم آخر حتى بعد ان فقد معظم اصدقائه واقربائه وهو يراهم يغادرون او تلتهمهم الممرات المخيفة فأنزوى وامي في غرفتهما يصليان .

كانت امي تربطنا بخيوط الحرير وتتركنا نلهو . الخيط الاصفر (( قمر )) والخيط الاحمر (( ست الحسن )) . تعلق طرفيهما بمسمار في المطبخ ليتسنى لها انجاز اعمالها دون قلق وتتركنا نلهو ونستكشف اولى خطواتنا خارج الغرف والممرات على قدر الخيوط الممدودة , والتي اخذت بالازدياد مع نمونا . حتى اليوم الذي تخلت فيه امي عن ربط قمر واضافت خيطها الى خيطي , لانها تأكدت ان ابنتها الناضجة سوف لن تتحامق وتذهب ابعد مما خبرته .

كان ذلك هو اليوم الاول من عيد الاضحى والذي اكملت فيه قمر عامها السادس عشر وهو اليوم ذاته الذي وصل فيه فنان الذكريات .

جاء مع قوافل البدو او حملته الريح الى الناصرة , لست ادري من اين جاء , فذلك الكائن الغريب الصامت والجميل لايبوح بسره لاحد . جاء من جهة الصحراء , انا التي رأته اولا فخفق قلبي . رأيته من بعيد فظننت للوهلة الاولى انه بائع متجول او جواب آفاق رمته المقادير الى مدينتنا . كنت انظر له من كوة في السور فرأيته يقترب . لابد وان تكون هناك عيونا كثيرة كانت تراقبه وهو يقترب . لكني لست ادري لم شعرت باني الوحيدة التي رأته . وان عينيه وقعتا علي وحدي .

لم يكن كسائر العابرين الذين يتوقفوا عند اسوار الناصرة ولايدخلوها , او واحد من الباعة المتجولين الذين يحملون طرائف وحكايات المدن الاخرى . كان اشبه بخيال ضال يبحث عن مكان آمن لينام فيه . كان مظهره غريبا وكأن عيناه وقعتا على كل المدن والبشر والحيوات والمعارف , عينان جميلتان ومدهوشتان لاتستقران على الاشياء طويلا , وملابسه لاتشبه ملابسنا كثيرا . كان يرتدي بنطالا وقميصا وحذاءا ضخما ملوثا بالطين وكأنه قطع مسافة طويلة على قدميه حتى وصل الى هنا . ... رفع ناظريه ناحيتي  وابتسم لي بعينيه المدهوشتين ورفع ذراعه وحياني .

 

كانت قمر تغسل يدي ابي , تصب عليهما الماء من الابريق لتزيل ما علق بهما من دماء النعجتين , ولم تلحظ يدي التي اخرجتها من الكوة وحييته . لابد وانه ميز الكف التي تحييه . كف الصبية المليئة بالخلاخل فخفض عينيه بخجل .

كان ابي مشغولا ولم ينتبه لي حينما اخرجت رأسي وصدري لاميزه اكثر واريه كم انا جميلة وشهية . كان كما حلمت به وكما صنعته مخيلتي واجتهدت باجتذابه الى الناصرة . كان بلا شك واحدا من احلامي الكثيرة , غريبا ونحيفا ولم يكن بحاجة لشئ حتى يكتمل سوى فراش دافئ ليلاعبني عليه .

كان السور عاليا وما يفصل بيننا كبير , الممرات المظلمة , ابي , وآذان قمر وعيونها التي ترقب كل حركاتي وتنقلها الى امي بمجرد ان تختلي بها .

همست له .

- عبد الله ... عبد الله ... انا ست الحسن .

حملت له الريح همسي فابتسم بجذل .

قال ابي وهو ينزل السلم .

- حاذري ياصغيرة من السقوط .

جاءت قمر تركض وحشرت جسدها في الكوة .

- ماالذي يشدك الى الخارج .

وحينما وقعت عيناها عليه ضحكت بسخرية .

- من هذا المهرج ؟!

قلت - انه عبد الله الذي كنت احدثك عنه .

نظرت له طويلا .

- اهذا من كنت تحلمين فيه .... ياللاخت المسكينة .

صرخت باعلى صوتي .

- انتظر ياعبد الله سافتح لك الباب .

ونزلت اركض , فلاحقتني قمر وهي تدمدم .

- احترسي ياست الحسن لاتذهبي , سيفتقد ابي وجودك .

- تعالي معي ولن يكتشف غيابنا .

- ان الوقت متأخر وانا لااعرف الطريق , كما ان خيطك لايكفي .

- ساعديني ياقمر .

- سنضل الطريق اذا ابتعدنا ... تعالي ياست الحسن .

ركضت في الممرات الملتوية وفتحت ابواب الغرف المخيفة , وكلما ابتعدت نقص خيطي واشتدت حيرتي , وقمر تلاحقني كظلي .

قالت - لنأخذ هذا الدرب ... انا اعرف منك .. ليس من هنا .. استمعي الي .

كنت اركض حتى لاافقده واسترشد باحلامي واضرع اليه عساه يرشدني الى الباب , حتى ابتعدت كثيرا عن منزلنا واوشك خيطي على الانتهاء .

امسكتني قمر من شعري وقالت .

- توقفي يامجنونة ... سوف نضل طريقنا تماما .

وسحبتني بعنف خلفها .

كنت ابكي واتوسل بها ان تدعني اذهب وافتح له الباب الذي لااعرف طريقا اليه .. يالليلة الرهيبة التي قضيتها في الفراش وقد اصابتني الحمى . حمى الحب الذي لاعلاج له ,

اجلستني امي بطست لتدهن جسدي بالسذاب . ساعدتني بخلع ملابسي وحينما رأت حمالتي نهدي المحشوتان بالقطن انتابتها نوبة غضب من حماقتي الصغيرة وغمغمت .

- الصغار يريدون ان يكبروا قبل الاوان .

قلت - لست صغيرة ياامي .

- اذا لم تكوني صغيرة لماذا تحشين صدرك بالقطن ؟!

كانت قمر تنظر الي وتضحك . تسخر من نهدي الصغيرين غير المهيئين للحب بعد . ليمونتان تثيران الشفقة .

قالت قمر بخبث .

- وماذا ستفعلين لو وجدت ما يلفت نظر الرجال .

وتمشت امامي وهي تستعرض مؤخرتها واثداءها , فانتحبت بصوت عال وضربتني امي على فمي وهددتني بمنعي من الخروج ثانية بسبب مااقوم به من حماقات لاتليق بفتاة صغيرة , فاشتد بي المرض ولم تعد تنفع بي جلسات دهن السذاب .

نحل جسدي وضمر نهداي اكثر , وكان ابي يتطلع الي بحزن وهو لايدري سبب مرضي . كان يظن انها نزلة برد عابرة ستزول , وعندما لازمت الفراش طويلا دون ان اتحسن قرر ان يستنجد بالعجوز عبد القدوس الذي كان مجرد سماع اسمه يبعث في الرعب لكثرة ماسمعت عنه من حكايات وانه لايموت .

رجوت ابي ان لايجلب العجوز لاني اخافه .

قال - لااحد يخاف من الجد عبد القدوس ....

- لكني اخافه يا ابي .

- وهل رأيته حتى تخافيه ؟....

وابتسم بوجهي بثقة ..

قال - انه مشوار طويل , ربما اغيب يوم او اكثر , لاتفتحوا الباب لاحد اثناء غيابي .

 

****************

 

جاءت قمر وهي تلهث .

- وصل ابي وهو يحمل شيئا غريبا يقول انه الجد عبد القدوس .

كانت مضطربة وخائفة .

- انه شئ ... شئ مقزز وصغير ياست الحسن .

ثم ركضت ناحية الباب تنظر له بفضول .

- ياالهي الرحيم .

دخل ابي الى الغرفة باسما .

- كيف حال صغيرتي ؟

وضع راحة يده على جبهتي وقال مخاطبا امي بحبور .

- وجدت العجوز باحسن حالاته ... ياللعجوز الممتع , كلما كبر توقد ذهنه ونشطت ذاكرته ... طوال الطريق وهو يحدثني عن الناصرة وتاريخها واهليها , ياللعجوز الجميل المحبوب ..

قالت قمر .

- اين هو ياابي ؟

- انه في الصالة على الاريكة ينتظر ان يراكم .

تطلعت اليه قمر ثانية .

- اتقصد .. ذلك الشئ ..

واشارت باصبعها ناحيته .

- نعم ... تعالوا معي وقبلوا يد جدكم .

استندت الى كتف امي ومشيت الى جانبها .

همست قمر - انا خائفة من كومة العظام تلك .

نهرتها امي وساعدتني للوصول اليه . كان متربعا على الاريكة يدخن .

ياالهي الرحيم , ماهذا . كان صغيرا . صغيرا جدا .. بطول ذراع واخضر كالضفدع . كان عاريا واخضر ولايغطيه شئ سوى مئزر حائل اللون .

نظر الي بعينين صافيتين وقهقه بصوت عال . فظهر له سنان منخوران في مقدمة فمه .

- اين حفيدتي الجميلة ؟

لم اكن اظن بان ذلك الضفدع قادر على اصدار مثل ذلك الصوت العميق .

مد كفه فانحت عليها امي وقبلتها .

قال ابي بلهجة آمرة .

- قبلي يد جدك .

هربت قمر من الغرفة وهي تغالب ضحكهها .

- ساجلب الشاي يا ابي .

مد لي كفا طويلة واصابع متقرنة وعيناه تستطلعان جسدي .... امسكت كفه بيد مرتعشة واغمضت عيني وقبلت يده . فانفجر بالضحك .

- هل انت ست الحسن ؟

قلت - نعم ياجدي .

- لماذا انت خائفة مني ياست الحسن ... تعالي واجلسي الى جانبي .

اجلسني الى جانبه .. فشممت رائحة عطنة تنبعث من ذلك الجسد القديم .

- هل تخافين عبد القدوس .... يالهي اصبح الاطفال يخافونني ... اين حفيدتي الاخرى ؟

جاءت قمر هي تتعثر وجلست الى جانبه بحذر .. طوقنا بذراعيه الطويلتين ودارت اصابعه حول خصري ومد بوزه ليقبلني .

- ليحفظكما الله .

وضع فمه على خدي فشعرت بلسانه الخشن يلعق خدي فابتعدت عنه . استدار ناحية قمر , وكانت هذه المرة تتطلع اليه بفضول ولم يعد يرعبها , اختلس منها قبلة فضحكت .

- ماالذي تفعله ياجدي ؟!

نخزها بخصرها فقفزت وهي تضحك .

- ماذا دهاك ياجدي ؟

قال - آه .. لوكنت شابا ... آه .. باعبد القدوس .

- ياللعجوز الفاسق .. قالت امي .

قهقه العجوز بجذل .

- ما من عجوز هنا سواك يا امرأه .

قفز بخفة من على الاريكة واخذ يزحف في الدار يستطلعه بعينيه حتى اقترب من السلم .

 قالت قمر - الى اين ياجدي ؟

- تعالي ياقمر .. تعالي ياابنتي واحمليني الى السطح .

انحنت عليه فتعلق برقبتها كالطفل .

- الى السطح ... ماتحتاجه صغيرتي المريضة هواءا نقيا . تعالي يا ست الحسن .

صعدت خلفهما وانا اجر جسدي .

كانت قمر تحمله على ذراعيها وهو متعلق برقبتها ورأسه على صدرها .

- لاتدغدغني ياجدي .

- آه ... يا قمر , آه لو لم اكن عجوزا .

- ماذا ستفعل ياجدي ؟

سآخذك بعيدا من هنا . لن اتركك تموتين في هذا المكان ...

ثم صمت فجأة ورفع رأسه نحو السماء .

- ماهذا الصوت ؟

كانت الطيور العائدة تزعق .

- انها طيور ياجدي ... الا تراها ؟

حملق بوجه قمر بعينين براقتين .

- جمالك سرق نور عيني يا قمر .

- هل تحبني يا جدي ؟

- آه يا قمر ... آه لو لم اكن عجوزا .

وضعته على الفراش وطلب منا ان يتوسطنا .

- احكي لي يا ست الحسن . ان ما بك ليس حمى . انت مريضة من شئ آخر ولا استطيع مساعدتك اذا لم تحكي لي .

كانت اصابعه اسفل نهدي .

- قولي لي يا ابنتي ماذا دهاك ؟

قالت قمر - اذا قلت لك يجب ان توعدني بالا تحدث ابي بالامر .

- اوعدك يا ابنتي لن اخبر احدا .

غمغمت قمــر - انها عاشقة يا جدي .

استغرق عبد القدوس بالضحك .

- عرفت هذا وربي .. عرفته من رائحتك ياست الحسن .. رائحة العذراء العاشقة تشبه مايفوح من زهرة (( اللاوندة )) , وهذا لاعلاج له ياصغيرتي ... وا أسفاه لاعلاج لمرض الحب .... لكن لاتخافي ياصغيرتي سأساعدك ... سا ساعدك .

اخرج من تحت مئزره زهرة بيضاء تفوح منها رائحة اللوز المر .

- ان جسدك يعبق بعطر اللاوندة , ولابد ان يشم هذا والدك يوما ما .

قالت قمر - وماذا سنفعل الان ياجدي ؟

- خذي هذه الزهرة وضعيها بين نهديك وستشفين .. سنهاجم اللاوندة بكبش القرنفل . اللاوندة ضعيفة امام كبش القرنفل .. خذيها ..

تناولت الزهرة منه ووضعتها في صدري .

قال - هذه الزهرة لا تفارقني ابدا لاني اعلم باني اقع سريعا في الحب .

قالت قمر - وماذا ستفعل بدونها الان ياجدي ؟

- ساقع في الحب ياقمر ... ساقع في حبك يا جميلة .

ثم قفز وجلس في حضنها .

لست ادري ما ذا حدث لقمـر .. كانت لاتفارقه للحظة , لقد سحبها الى عالمه الغريب . عالم الاعشاب الساحرة والحكايات الغريبة , فاخذت تلاحقه حينما يهرب من عالمنا الى مخلوقاته وكانها تريد ان تتحد بها , او تصبح واحدا من تلك التماثيل الصامتة . كانت تهتم به كثيرا , تحممه وتطعمه بيديها وتوسلت باابي ان يبقيه معنا في المنزل . كان وجوده يبعث الحبور في قلب ابي فلم يمانع ببقائه .

كانت قمـر تصرخ في المنزل حينما تبحث عنه ولاتجده .

- جدي ... جدي ...

فيخرج رأسه من تحت الشراشف ويبكي .

- قمـــــر ... قمـــــــر .. اني اشم رائحة اللاوندة .

 

**********

 

مرت شهور عديدة منذ ان فقدت اثره .. ذلك الزائر الغريب الذي دخل حياتي كالحلم ثم ذهب دون رجعة . وفشلت كل محاولاتي بالتقائه صدفة في واحد من الممرات فارشده الي . فشلت في ان التقيه لكني نجحت باقناع امي في ان تعتقني من خيط الحرير الاحمر الذي يربطني بالمطبخ , فاتسعت جولاتي واخذت بالذهاب الى اماكن اخرى وماعادت ترعبني كثيرا الممرات والدهاليز المظلمة التي بدأت اعرفها جيدا. ان قوة الحب الغريبة منحتني الشجاعة على اقتحام ذلك العالم المخيف الذي اسمه الناصرة , واخذت اهتدي لغرفتي بعينين مغمضتين .

افرغنا العلية للجد عبد القدوس . مكان واسع يستطيع ان يزحف فيه كالحيوان ويعمل دون ان يزعجه احد . انه لايكف عن العمل .. اصوات الطرق والحك والنشر مستمرة طوال اليوم , لكني لم اجد في نفسي الرغبة في التطلع الى مخلوقاته البائسة التي كانت تملؤني بالخوف , عكس قمر التي سحرها ذلك العالم الذي يخلقه الجد فانجذبت له بروحها واصبحت لاتفارقه . حتى انها كانت تقضي معظم وقتها في العلية تراقب الجد وهو يعمل .. كان قد سحبها الى عالمه الغريب والصامت , فانقادت له .

كانت لاتغادر العلية الا في الاوقات التي يصل فيها بعض من ابناء العم والجيران لرؤية الجد والتحدث معه .... كانوا يصلون دائما ودون موعد , رجال غلاظ مفتولي الشوارب تتحدث معهم امي من خلف الباب ثم تخلي لهم الطريق فيصعدون الى العلية يدخنون ويتحاورون طيلة الليل . كنت اسمع لغطهم وضحكاتهم واشم رائحتهم القوية . تبغ وتنباك وافيون . وكنت آمل ان لاتكون رائحته كمثل رائحتهم . انها تبعث في الغثيان .

لم يدفعني الفضول حتى لرؤية وجوههم وهم يدخلون ويخرجون .. يتنحنحون في الغالب ويدخلون بخشونة . اسمع حفيف ارديتهم الخشنة واحتكاك نعالهم بالارض . انهم ابناء العم والاعمام الكثار والجيران . منهم الخطيب والزوج المنتظر كما تأمل امي . عسى ان يقع نظر احدهم صدفة علينا ويتقدم لخطبة احدانا .

حملت لنا الايام المزيد من الزوار , ياتون غالبا دون موعد وبصورة مفاجئة , وهذا ما جعل ابي غير قادر على مغادرة المنزل فانقطعت سياحتي الشيقة , كما ازدادت اعمال المنزل واعداد كميات كبيرة من الطعام للزائرين الطارئين الذين يريدون رؤية عبد القدوس .

اضطرت امي الى الاستعانة ب (( صفية )) جارتنا العانس رغم مايحيط بحياتها من غموض واشاعات عن علاقتها بربيبها هارون , ذلك المراهق الاخرق السمين الذي ينام وهو واقف . طلبت منها امي ان تدخل المنزل وتساعدنا في اعمال المنزل , كما طلبت منا ان لانتحدث معها كثيرا الا بما يتعلق بامور المنزل والطبخ . ان وجود عانس تحيط بها الشبهات مع عذراوين خليق بجعل امي تقلق . لذلك لم نتبادل معها سوى احاديث قليلة ومتقطعة , وشعرت من اللحظات الاولى باني لااحبها ولا احب اسنانها الذهبية التي تكشرها حالما تراني .

كانت قمـر تسميها الساحرة صفية . وتقول بانها قادرة على تحريك القدور والاواني بمجرد النظر اليها , وانها في الحقيقة لاتستحق الاجر الذي ندفعه لها لانها لاتحرك عجيزتها الضخمة وانما هناك من يقوم بهذا العمل بدلا عنها , حشد من الاعوان غير المرئيين الذين يطبخون وينظفون بحركة من فوطتها المطرزة بالطلاسم . لذلك لم تمس قمر اي طعام يخرج من بين يديها وكانت تنتظر اللحظة التي سيتحول فيها جميع المدعوين الى قردة وخنازير . خدم تحت يد تلك الساحرة العانس . وعندما تراني اتذوق طعامها تفول .

- حاذري ياست الحسن فسياتي اليوم الذي تمتلئ فيه معدتك بالاعوان .

ثم انقطعت عن دخول المطبخ او لمس اي شئ وقعت عليه انفاس صفية بحجة ان هناك غرباء في المطبخ تشعر بنظراتهم الخارقة تعريها وانها لاتريد ان تنجب جنيا وهي ماتزال عذراء .

ولما لم يكن هناك الكثير من الاعمال في المنزل لكي تقوم بها , انزوت في غرفتها تحوك ثيابا للجد عبد القدوس , ثيابا ملونة تلبسه اياها باحتفال صاخب . بناطيل وقمصان وطراطير ثم تطلقه في المنزل وسط قهقهاته المدوية .

- ما ذا لو رآني الضيوف يا قمـر ؟

- لاعليك ياعبد القدوس , فانت اجمل منهم بكثير .

- اعيدي لي مئزري القديم ياقمـر

فترفع اصبعها بوجهه مهددة .

- اذهب يا عبد القدوس والا زعلت منك .

فينكس الجد راسه كالطفل ويزحف ناحية السلم وكانه بهلوان حقيقي وليس حكيم الاعشاب وذاكرة الناصرة التي لاتموت .

كانت تصلني صيحات الاستنكار التي يطلقها الزوار وضحكاتهم المجلجلة حينما يجدون العجوز الحكيم بطرطور اصفر وقميص احمر وبنطال ازرق جالسا على حشية صوف يفض نزاعاتهم ويذكرهم بتاريخهم . كل ذلك لم يكن مهما بنظر احد فان العجوز ازداد ظرفا بتلك الملابس واخذ يطلق النكات وكانه اكتسب روحا جديدة .

- جرب هذا المعطف يا عبد القدوس .

فيمد ذراعيه على سعتهما وتدحله فيه .

- انت الان متهيأ للشتاء وسوف لن اخشى عليك من البرد .

- انه ثقيل ياقمـر .

- ستعتاد عليه ... ستعتاد عليه .

كومة العظام المقززة تلك اصبحت وكانها مشجب ملابس غير متناسقة الالوان . اراه يزحف في المنزل فتنتابني رغبة عارمة بركله , لكن عينا قمر اللتان لاتفارقانه ابدا تجعلني احجم عن فعل ذلك .

كان انشغال ابي بالزوار يمنعه من الخروج من المنزل حتى للتسوق وهي المهمة التي كان يقوم بها طيلة حياته . اذ ان من النادر ان تقوم النساء بالتسوق في الناصرة . ولما لم يرزق بصبي فانه اخذ بتكليف امي بهذه المهمة , مهمة التسوق الممتعة التي كنت احلم ان اقوم بها ولو لمرة واحدة في حياتي . ولما كانت امي غير قادرة على حمل كل تلك الكميات الكبيرة من الطعام فانها اخذت بالاستعانة بي وقمر في مساعدتها .

كنت فرحة بهذه الخطوات الجديدة التي ساخطوها الى خارج ماعهدته ورؤية عالم غامض بقي مستعصيا علي فتهيات له تماما , فمن يدري قد التقيه بطريقي صدفة واجذبه الي , من يدري لعله يبحث عني ايضا مثلما افعل انا .

كانت امي تتوسطنا ونحن نقطع الطرق التي لم نرها من قبل , كنا نلف البراقع على وجوهنا وكانت قمر تخفي عبد القدوس تحت عباءتها وكانه رضيع مستسلم للنوم , رغم شخيره المؤذي الذي كان المارة يسمعونه بوضوح . شخير اختلط بزعيق الباعة وهم يعلنون عن بضاعتهم ... اخترقنا حشود الرجال الذين كانوا يسترقون النظر الينا ويتابعون خطواتنا . كانت هناك بضع نسوة يتسوقن واخريات يجلسن على ابواب الدكاكين . اغلبهن عجائز لايلفتن النظر ولاتنالهن الاقاويل .

كان الوقت ظهرا وكنت اختنق تحت ثقل الملابس التي تغطيني باكملي ولاتترك لي سوى العينين اللتين بالغت برسمهما بالكحل كما فعلت امي وقمر , كل تلك الثياب لم تكن تخفي الجمال الذي تحتها , فكنت المح نظرات الرجال التي تسلقنا وكنت استمتع بذلك فادفع صدري الى الامام لاريهم كم انا فتية وجميلة , عسى ان تكون عيناه في مكان ما تبحثان عني .

كانت قمر غير مهتمة بما يحدث من حولها . تنظر بين لحظة واخرى الى عبد القدوس وتداعبه وهو يتذمر كالطفل .

- هل وصلنا الى السوق ياقمـر ؟

- نعم ياجدي , لكن لاتفكر باخراج رأسك من العباءة . انظر من خلالها فقط .

- لكني لاارى شيئا .

- تشمم ياجدي ..

- آه ياقمـر دعيني اخرج رأسي لارى ..

- اخاف عليك ياصغيري ..

ثم تضحك وتلاعبه فيضع رأسه على كتفها بدلال .

كان السوق مزدحما وكان بعض المارة يتعمدون الاحتكاك بجسدي فيثير ذلك بي الحنق والرغبة . يحتكون بي ويتركون رائحة اجسادهم , عرق آباط ثقيل ورائحة بول وتبوغ تزيدها الشمس حدة . كان الرجال في كل مكان يسترخون بكسل في المقاهي التي اصطفت على جانبي الطريق . فلاحون مع حميرهم المحملة بالحنطة يقفون تحت الشمس . شرطة يتسكعون على الارصفة بعصيهم وصفاراتهم . كتبة ووراقون جالسين في دكاكين ضيقة مشغولين بزخرفة حواشي القرآن . عشابون مهرة تنبعث من دكاكينهم رائحة العطاس والتوابل والطيوب ودائما يسرون بشئ خفي لزبون عابر . لكم تمنيت لو اكون رجلا لكي يتسنى لي ان اتسكع دائما وسط هذا العالم الغريب والملئ بالمفاجآة بعيدا عن جو المنزل الخانق .

تسمرت قمـر عند واحد من الدكاكين التي كانت تعرض المجوهرات والذهب بطريقة اخاذة . صفرة تأخذ بمجامع القلوب و فتوقفت تنظر لها من خلف الزجاج وقد جذب نظرها خاتم جميل بفص اسود .... كانت عينا البائع تحدقان بها بشغف . عينان سوداوان وحالمتان تدعوانها للدخول .. ابتسم لها البائع مشجعا , فاندفعت بجرأة الى الداخل وتبعتها امي ثم انا . صفعتني برودة الدكان الظليل فوددت لو ابقى فيه طويلا . كانت رائحة الذهب باردة وكذلك رائحة الرجل الذي نهض من كرسيه وعرض علينا مجموعة من الجواهر والقلائد .

قال - قلائد تليق بالاميرتين .

مد عبد القدوس راسه ليستنشق رائحة البرد , فتراجع الجواهري الى الخلف وكانه بوغت . ثم نظر بعيني قمـر باستغراب . انزلته قمر ووضعته على الاريكة وقالت .

- اريد الخاتم .

قال عبد القدوس .

- اريني اياه ياقمـر قبل ان تشتريه .

قال البائع - هل اسم العروس قمـر ؟ . والله لكأني حدست ذلك .

وناولها الخاتم بيد مرتجفة .

- انه لايقدر بثمن ياقمر . وخرزته السوداء وحدها ثروة . انها من الجزع الخالص . وهو لايليق الا بكفك .

وضعته باصبعها وتمعنت به طويلا .

قال عبد القدوس .

- دعيني اراه , لاخبرة لك بهذه الامور .

اعطته للجد الذي قلبه وتشممه كالحيوان .

كانت عينا البائع لاتفارقان قمر , وقد اخذت شفتاه بالارتعاش .

قال - انا تاجر غريب , من البصرة واسمي نعمة الله .

ثم ابتسم ببلاهة وهو يوزع علينا نظراته بتوسل .

قالت قمر .

- حسنا يا نعمـة الله , كم ثمنه ؟

قال التاجر .

- ان مراكبي تملأ شط العرب وسقف بيتي من الجوهر وابي اكبر تجار العراق وعندي مثل هذا الخاتم كما الحصى .

قالت - قلت انه لايقدر بثمن يانعمة الله .

ونظرت بعينيه مباشرة فتشجع التاجر .

- ان حكايتي غريبة ياسيدتي .. لو انك تلطفت بسماعها .. تفضلوا اجلسوا .

وحرج من خلف منضدته .

- فقط اسمعوني لدقائق ياسيداتي . من فضلكم بضع دقائق .

تربع عبد القدوس على الاريكة والخاتم بقبضة يده .

قال - اجلسوا يابنات فان الحر شديد في الخارج .

جلسنا الى جانبه فسحب التاجر كرسيا وجلس قبالتنا .

قال - قد يبدو ما اقوله غريبا , لكن لكم ان تصدقوني او لا .. اعلموا باني احد اكبر تجار العراق ولم آت الى الناصرة رغبة في التاجرة واما لسبب اخر . فانا لست بحاجة للمزيد من المال فان عندي ما يبلط طرق هذه المدينة بالفضة .

قال عبد القدوس .

- جئت الى الناصرة تبحث عن زوجة كما ارى .

- ليس بالضبط .. النساء الجميلات في كل مكان ... لكن ما ابحث عنه ...

ومد يده الى جيبه واخرج صورة فتاة غاية في الجمال , بفم احمر وخد ازهر ورقبة كالمرمر . قال .

- ابحث عن هذه .

ودفع بالصورة الى قمـر وكانها تعنيها وحدها .

ثم اردف بخجل .

- الخاتم لك ياسيدتي ... مقابل ان ترفعي الحجاب عن وجهك لثوان .. ثانية واحدة ياسيدتي . وارجو ان لا احد يفهم ماارمي اليه غلطا .

ران صمت عميق على المكان حتى اني كنت اسمع وجيب قلبه الخائف ..... وبجرأة لم اعهدها بقمر رفعت البرقع عن وجهها وهي تبتسم . لم ارها جميلة وساحرة كما رأيتها في تلك اللحظة وقد اشرق وجهها بتلك الابتسامة الاخاذة . كانت جميلة جدا وغير مبالية , طاغية عذراء لاتعرف معنى للمشاعر , كشفت له عن وجهها الجميل وسط ذهول الجميع . وتحيلت للحظة ان الذي رسم تلك الصورة كان يفكر بقمـر . ليس بي او ايـة مخلوقة بديعة الجمال .

ثم غادرت المكان بثقة وعبد القدوس تحت عباءتها .

لم اكن اظن ان قمر ستفعلها من اجل خاتم , فاطلقت ضحكة فاجرة بوجه البائع المذهول الذي اخذ يردد .

- سبحان الله .

ضحكة جعلت من مئات الوجوه والعيون المستطلعة تلتفت نحونا . وجوه عديدة كانت تحدق بنا بذهول . رجال لم يتوقعوا ان يسمعوا امرأة تضحك . ومن خلل تلك العيون الكثيرة شعرت بان هناك عينان تخصاني وحدي وتتضامنان معي فرحت ابحث عنهما . بحثت عنهما في تلك الوجوه المستنكرة ولمحت لافتة كبيرة خط عليها (( فنان الذكريات )) . ورايته جالسا على باب دكانه يبتسم بجذل . كان ينظر ناحيتنا .. انه ذات الرجل الذي رأيته حائرا عند السوق .

- عبد الله !

انفلت ناحيته فامسكتني امي من معصمي بقوة وهي تصر على اسنانها .

- ماذا لو علم والدكما بالامر ؟

 

*********

 

من اجل عيني قمـر اراد نعمة الله تعبيد الطريق الى منزلنا بالفضة , ومن اجل الوصول الى قلبها وطلب يدها جاء بقافلة كبيرة من الجمال المحملة بالفضة , مئات من  الجمال التي كانت تئن من احمالها الثقيلة , اصطفت واحدا اثر الاخر من الباب الرئيسي وصولا الى باب منزلنا , قاطعة المدينة بخط يلتوي ويميل مع تعرجات الشوارع والازقة والممرات , خط من الجمال المنهكة التي كانت تتبرز خيوط حاكة اصفهان الثمينة وتصنع اول خط معلوم في متاهة الناصرة , اتخذه الناس فيما بعد معبرا للعالم الاخر , للخروج من المدينة وسموه درب الفضة وهو اول طريق ظهر لهم في اول خارطة للناصرة رسمها احد المغامرين المسكونين بروح الصحراء والمساحات المفتوحة .

كان نعمة الله يمسك بحبل اول جمال القافلة وقد ارتدى وشاحا موصليا ووضع تحت حزامه خنجرا مرصعا باللؤلؤ والجواهر التي كانت تبرق كعيون الصقور , ومن حوله غلمان شراكسة يختالون بسيوفهم وبنادقهم وعصيهم , ونساء مكشوفات الوجوه تفوح منهن رائحة (( السنا المكي )) ومن عبير افواههن يعبق شذى (( الترنجان )) . قطعن الطريق من البصرة الى الناصرة مع جمالهن واحمالهن الثمينة يمشين على السجاجيد الاصفهانية التي كانت الجمال تبول عليها وتأكل اطرافها وزخارفها بدلا من الشوك . فسكنت امعائها رائحة الثروة الطائلة التي انفقت دون جدوى واخذت تتبرز خيوط وزخارف اصفهان التي قدر طولها بطول قطر الناصرة الف مرة . ورافق القافلة مئات من المغنين والغجر التائهين والصعاليك وضاربي الودع والسحرة النائمبن في الهواء .

طوفان من الغرباء اخترق شوارع الناصرة ودهاليزها وممراتها المظلمة واختلط باهلها بكل ذلك الصخب والضجيج وحب المرح الذي يتميز به اهالي البصرة , فايقظوا سبات اهلها الطويل , ففتحت كل نوافذ البيوت واطلت منها جميع حسناوات المدينة وخفقت قلوب كل العذارى ورقت عيون الرجال ذوي الشوارب الغليظة فتغافلوا عن بناتهم اللواتي كشفن وجوههن الجميلة للغرباء ودفعن اثدائهن خارج الشبابيك حتى كاد ان يحتك بها السحرة النائمون في الهواء .

استيقظت الناصرة على ذلك الضجيج الذي لم تعهده طيلة وجودها , فنسي الاطفال خيوط الارشاد وتقافزوا بمرح حول القافلة مدهوشين من خراء الجمال المزخرف , وانشغلت امهاتهم بسر الطيب المكي الذي عبق في المدينة فاخذن بالتسبيح والتحميد وتبادل اطراف الحديث مع النسوة البصريات وكانهن يعرفن بعض من دهور .

ومع اول طرقة على الباب استيقظ السحرة من نومهم فخرجت من اصابعهم نتف الثلج التي غطت القافلة والناس والطرقات والشوارع واشاعت البرد في الاجساد وظهر قوس الشيطان فوق السطوح وانطلقت صيحات الذهول من الافواه , وتركزت كل العيون , الاف العيون المترقبة الى الباب الذي ظل موصدا وسط كل تلك الضجة .... وفي الطرقة الثانية سكن كل شئ للحظة . انقطعت نتف الثلج من التدفق وغاب قوس الشيطان وحبست الانفاس بانتظار اللحظة التي سيفتح بها الباب وتطل جميلة الجميلات قمـر .

مرت دقائق ثقيلة فصر الباب وفتح على مهل وبرز منه مهرجان الالوان , الطرطور الاصفر والقميص الاحمر والبنطال الازرق . اطل الجد عبد القدوس وهو يرتجف من البرد . ذعر الجمل المثقل بالفضة وانكفأ الى الخلف وانطلقت اصوات الاستنكار من الحشد الواقف وتهيأ الغلمان الشراكسة لردة فعل عنيفة وايديهم على عصيهم .

وعندما عاد الهدوء ثانية , تبسم عبد القدوس واعلن بصوت عميق سمعه آخر شركسي متأهب يقف بالقرب من آخر جمل عند الباب الرئيسي .

- حفيدتي الجميلة تقول انها لاتشبه الصورة , لانها لاتملك خالا على خدها الايمن .

ثم دخل واغلق الباب خلفه .

نسي السحرة من هول الصدمة العزائم والاوراد التي كانت تحركهم فبقوا متسمرين في الفضاء قرب النوافذ لايعرفون ماذا يفعلون باجسادهم الطائرة . وانسحبت القافلة بحزن وتفرق الصبية والغجر والصعاليك والنساء مكشوفات الوجوه . وعاد نعمة الله مخذولا بسب تلك النقطة السوداء المرسومة بحذق على الخد الايمن من الصورة , وبكى بحرقة لانه فشل في كسب قلب قمر التي اراد ان يمهرها بجبل فضة .

حتى عندما ياتي الحب فانه ياتي من قلب عاشق لاينتمي الى الناصرة وليس من ابنائها , وعندما ياتي الجنون ياتي من خارج اهلها ايضا . فالخط الطويل من الجمال وآثار الروث المزخرف اصبح علامة للدخول والخروج من المدينة , عندما تجرأ اسماعيل ذلك الصبي المسكون بالمساحات المفتوحة ورسم خارطة بدائية مستعينا بانفه وعينيه متتبعا آثار القافلة . رسم الباب الرئيس وانطلق منه يتشمم آثار الجمال حتى عتبة دارنا , ثم طلب من السحرة العاطلين ان يرتفعوا قليلا في السماء ويصفوا له المدينة وما خلف منزلنا مقابل سلال البرتقال الذي كان يقذفه لهم حتى لايموتوا جوعا .

كان منظر السحرة الاربعة مثيرا للشفقة وهم ياكلون ويتبرزون في الهواء , ويساعدون اسماعيل في رسم خارطته الاولى للناصرة , فاكتشفوا بابين اخريين يؤديان الى المدينة واقوام اخرين يجاوروننا ولااحد يعرف عنهم شيئا .

من يدري كيف يعيش اولئك الناس في الجانب الاخر من المدينة , وما هو نوع الحياة التي يحيونها .

كنت اهرب من جو المنزل المشحون بين امي وقمر بسب ذلك الزوج الخرافي الذي لاتاكل ثروته النيران . اهرب الى السطح بعيدا عن مهاتراتهن التي لاتنتهي واطلق خيالي ناحية السوق , حيث فنان الذكريات . وكنت ارى السحرة الهائمين يرفرفون فوق السطوح بلا عمل . احمل لهم البرتقال واقذفه بالهواء فياتون سابحين ومنهكين , وقد طالت شعورهم ولحاهم ونحلت اجسادهم من الحر والعواصف , ازداد ابتعادهم عن الارض واصبح من الصعب مناولتهم البرتقال لخفة اجسادهم . كانوا يرتفعون شبرا كل يوم وكنت اخشى ان استيقظ ذات يوم ولا اجد سوى اربعة هوام بعيدة جدا لااستطيع اطعامها .

- تعال ياعم ياساحر .. تعال خذ عشاءك .

ارمي البرتقال في الهواء فيتلقفه السحرة ويدسونه تحت ثيابهم فيثقلون شيئا فشيئا حتى يصبحوا بمتناول يدي فاقص لحاهم وشعورهم واغسل وجوههم .

- قل لي ياعم ياساحر ... هل تعرف دكان فنان الذكريات ؟

- نسيت ياابنتي , نسيت كل شئ .

- انه وسط السوق . اذهب الى هناك واخبره اني بانتظاره .

- سافعل ... سافعل .

يذهبون يرفرفون ثم ينسوا ان يعودوا .

 

********

 

كانت صفية تحمل الفانوس بساعدها كعادتها وتتنقل كالشبح داخل المنزل لتشعل الفوانيس الاخرى واسنانها تبرق في الظلام .... دخلت غرفة ابي واضاءتها ثم الحمام والممر . ابتلعها الممر المظلم ورأيت ظلها يرتسم على الحائط . تحرك الظل بعيدا ثم عاد ثانية وظهرت فجأة وهي تحدق باتجاه النافذة بذهول وقد غمرها ضوء مفاجئ فتسمرت بمكانها وكأنها شبح فضي . انسل الضوء وغمر المنزل باكمله حتى بدت الفوانيس بلا فائدة .

خرج والداي من غرفتهما وتسمرا في منتصف الحوش .. ركضت ناحية النافذة اتطلع لمصدر الضوء , زحف عبد القدوس خلف قمر التي كانت تزاحمني على النافذة , وظهر هارون مع قططه وقد انتفخ كرشه من المفاجأة .

كنا ننظر الى كرة فضة هائلة الحجم ظهرت في سماء الناصرة وانارت بيوتها وازقتها المظلمة ثم دخل ضؤها الى بيتنا والبيوت المجاورة .

همست قمر .

- يا الله ... ما اجملها !

وشع وجهها بابتسامة اخاذة .. اغمضت عيني لاحتبس ذلك الجمال خشية ان يختفي الى الابد وسمعت عبد القدوس يتنهد خلفي ... هرعت الى السطح تلاحقني قمر وهي تحمل الجد على ذراعيها .

- ما هذا الضوء ياقمـر ؟

- لست ادري يا جدي ..

كان على سطوح المنازل الاف الناس ينظرون باتجاه كرة الفضة التي ارتفعت في سماء الناصرة ونشرت شعاعها الفضي مصحوبة بالتأوهات وصرخات الاعجاب .

حدست كما حدس الجميع انها من صنع نعمة الله ذلك العاشق النبيل وانه وحده القادر على ايصال حبه لمعشوقته بهذه الطريقة الباذخة .... كان السحرة الهائمين يطوفون حول رسالة الحب العجيبة وقد بعدت اجسادهم حتى لم يعد احد قادرا على مناولتهم البرتقال .

- يا عم يا ساحر ... لـمن كرة الفضة ؟

تعالت الاصوات ..

- انها للجميلة قمـر ...

مطت قمر شفتيها وهي تغمغم .

- وما ذنبي انا اذا لم اكن امتلك خالا .

ثم نزلت من السطح وكأن شيئا من هذا لايعنيها .

سهرت طويلا احدق ببهاء العشق ذاك وبكيت طويلا , لادرب لي ولا كرة فضة .. ودون ان اعي ما افعل ذهبت الى غرفتي وغيرت ملابسي وخرجت ..

كان الجميع نياما , احكمت وضع البرقع على وجهي وانسللت من المنزل خلسة . فتحت الباب وهربت بعيدا عن المنزل .. كنت آمل ان اراه وقد جذبه نور الفضة مثلي . لابد وان يكون هناك يتسكع حول الكرة العجيبة . فهو مثلي نبتة غريبة لا احد يعرف اسرارها .

وحينما دخلت احد الازقة شعرت بحفيف عباءة خلفي .

- الى اين ياست الحسن ؟

كانت قمر تسرع خطوها لتلحق بي .

- الى اين انت ذاهبة ؟

وامسكت ذراعي بقوة .

قلت - هل علم ابي بالامر ؟

- كـلا انه نائم .

- تعالي معي يا قمر .

- الى اين ياست الحسن ؟

- لنذهب الى كرة الفضة .

مشينا سوية في درب الفضة وكنت المح على شفتيها ابتسامة ماكرة .

قلت - اريد ان اراها عن قرب .

- سندور حولها ثم نعود ... لاا ريد ابي يعلم بامر خروجنا . سنعود سريعا .

- انه صنعها من اجلك ياقمر .

- اعلم يا ست الحسن ... اعلم .

كان الدرب مضاءا جيدا وكنت المح بضعة عابرين كانوا ينظرون لنا باستنكار .. رأيت نساءا واطفالا يسيرون بمجموعات ناحية الضوء , وكلما اقتربنا من الكرة يزداد عدد العابرين . كان الجميع يرغب برؤيتها عن قرب .

قالت قمر - لااريد احدا يتعرف علينا ويخبر ابي , اعرف طريقا مختصرا , تعالي لنسلكه .

دلفنا زقاقا اخذ يضيق كلما تقدمنا فيه اكثر , ثم اصبح لايسع لمرور سوى شخص واحد . فتقدمتني قمر .

- انا اعرف منك بهذا الدرب .

قلت - ما ذا لو اتى احد من الجهة الاخرى ؟

- لا احد يعلم بهذا الدرب سواي ... ارشدني اليه عبد القدوس .

كانت عباءتانا تتطايران في الهواء فشعرت وكأننا ساحرتان مخيفتان .

كانت هناك بضعة ابواب مغلقة ومهجورة منذ زمن طويل .

قالت - ارشدني ايضا الى مكان الدفيئة .

قلت - اية دفيئة ياقمر ؟

- دفيئة عبد القدوس ... هل تتذكرين زهرة اللاوندة التي تداوي من اوجاع الحب ؟

- اجل ... اجل اتذكرها .

انها من دفيئة الجد . ولابد وان تكون خلف احد هذه الابواب .

- ولماذا تريدين الوصول اليها ؟

- عبد القدوس يريد منها بتلة .

توقفت عند احد الابواب ذي قبضة على شكل زهرة غريبة لم تقع عليها عيناي من قبل , واخرجت من جيبها مفتاحا وفتحته . افغمت انفي رائحة حقل كبير , عبق الاف الزهور هجمت علينا من الظلمة فشعرت بالخوف .

قلت - لن ادخل ..

- تعالي معي يا ست الحسن ..

- انا خائفة .

- تعالي معي ولاتكوني حمقاء .

- الظلام يخنقني يا قمر .. لا اريد الدخول ... سابقى هنا .

- حسنا ابقي مكانك حتى اعود .. لاتتحامقي يا ست الحسن وتذهبي لوحدك .

دخلت قمر خلف الباب وبقيت انتظرها في الخارج واصرخ باسمها بين لحظة واخرى فتجيب .

- لا تقلقي كل شئ على مايرام .

ومن بعيد لمحت شبح رجل يأتي من الاتجاه المعاكس فخفق قلبي من الرعب وتسمرت بمكاني .... اقترب الشبح فاستطعت ان اميز هيئته الجميلة .. البنطال ذو المربعات والحذاء الضخم ... انه عبد الله , فاندفعت ناحيته . ناحية الكائن الجميل الرابض بمخيلتي . الحلم الذي انتظرته طويلا ... فلا قمر لي ولادرب فضة سواه .. كانت الجدران تحتك باكتافي وتؤلمني وكنت اريد الوصول الى ذلك الشبح الهزيل واحتضانه . اسرعت خطاي فحمل التيار العنيف القادم من انفاسه عباءتي فاوقفه حفيفها .

قال من بعيد وكانه يريد ان يتجنب المواجهة مع انثى تريد العبور .

- اظن اننا سنواجه مشكلة في هذا الدرب الضيق .

لم اكن مهتمة لما يقوله . فاندفعت ناحيته حتى التصقت به .. كنت اريده ان يراني فيسكن حبي قلبه الى الابد .

قال - حاذري ياصبية ... الدرب لايسع سوى شخص واحد .

نظرت بعينيه طويلا .

- دعني امر .

- اسمعي يا صبية ....

لم اكن مهتمة لما يقوله ... كنت التهم رائحة جسده وانا التصق به . دفعته من صدره باصابعي فشعرت كم هو هش ورقيق ... انغرزت اصابعي باضلاعه .

قلت - ابتعد عن طريقي يا عبد الله .

- ان اسمي ليس عبد الله يا صبية .

دفعته بعنف وغضب .

- لاتقل لي صبية ... انا ست الحسن .

- مهلا ياست الحسن ... ان اظافرك تؤلمني .

- اذن دعني امر .

الصقته الى الجدار وحشرت جسدي ... بقي مدهوشا للحظات .

قلت - ابقي ذراعيك بعيدتين عني يا عبد الله .

صالب ذراعيه على الحائط واصفر وجهه حينما توحد جسدانا للحظات وكادت شفتاي الملتهبتان ان تلتقيا بشفتيه .. تنشقت انفاسه ودفعت جسدي بعيدا عنه وانا ارتجف . غادرته سريعا ولم التفت ناحيته لاتركه يتعذب .

كان جسدي يؤلمني وقد عاودتني اوجاع الحب القديمة .

خرجت من الدرب الضيق الذي اوصلني الى السوق ورأيت كرة الفضة الهائلة الحجم تتوسطه , وكان هناك بعض المتطفلين مثلي يدورون حولها ويحاولون تسلق جدارها الاملس فيفشلون . ورأيت نعمة الله في دكانه يحدق بها بعينين محمومتين وكأنه شرب رطلا من الكحول . تمعن بي طويلا لكنه لم يستطع ان يميزني , فعبرت من جانب دكانه فلاحقني بنظراته حتى ابتعدت ..... اتجهت ناحية دكان فنان الذكريات وقد سترتني الظلمة وكتبت على بابه بخط كبير وواضح (( ست الحسن )) .

كتبتها كبيرة وواضحة لابلغه حبي وكم انا اشتهيه واحبه وعدت من حيث اتيت وبي شعور طاغ بالفرح . لقد قلت له كل مااريد قوله وعليه ان يبحث عني الان . انتهت مهمتي وساذهب للفراش وانام كالطفل . وداعا ايها الحب , سأنام حتى يأتي ويدق بابي .

 

  ارسل هذه الصفحة الى صديق

اغلاق الصفحة