درب الفضة

رياض كاظم

 

* الدفيئة *

 

سرت قاطعا طريقي ناحية (( الناصرة )) . المدينة التي بقيت ماثلة بذاكرتي لاعوام طويلة بحكاياتها وشخوصها دون ان اجروء الى العودة اليها , خوف ان اجدها خالية من السحر الذي كانت تعدني به , وتصبح حقيقة مجردة تستند على آجر منازلها .

وصلتها عند الظهيرة وقد ادهشني الخراب الذي لحقها وتركها خاوية الا من اطفال نصف عراة يلعبون عند سورها.ومقهى صحراوي تقف عنده قوافل البدو وهم في طريقهم الى الصحراء . وجوه لم استطع الاطمئنان اليها . فسألت صبي المقهى عن مكان اقضي فيه ليلتي .

قال - اذهب الى المنزل الكبير .

قلت - هل مازال احد يعيش فيه ؟!

قال - كلا .... لااعتقد . ثم صمت لبرهة واكمل .- اسأل عن هارون .

لم أساله من يكون هارون .

تمتد المدينة على شريط واسع من بقايا غابات النخيل والاشجار التي تحيط بها وتفصلها عن الصحراء لتمنع عنها زحف الرمال . ثم تصنع مستطيلات واسعة , مزارع قمح وشعير ثم تنتهي عند النهر الذي يحدها من الجنوب ويفصلها عن البراري الواسعة ... انها بقعة فريدة وكأنها حلم من تلك الاحلام التي يصنعها متوحدون غايتهم الجمال و لكن الجميع قد هجرها بغتة وكأن لعنة ما قد اصابتها .

لم اقابل احدا وانا في طريقي الى المنزل الكبير سوى بائع متجول يعلق برقبته صندوقا .

صرخ حالما رآني - من يبادل كل شئ ولاشئ .... بلا شئ .

اجتزته دون ان اكلمه . قال

- الى اين ذاهب ؟

قلت - الى المنزل الكبير .

قال - كنت هناك فلم اجد احدا .... هل انت غريب ؟

اومأت برأسي بالايجاب . قال - لاتذهب ....

ابتسمت بوجهه وتابعت سيري فزعق من جديد - من يبادل كل شئ ولاشئ ... بلاشئ .

كان الحر لايطاق فاتجهت ناحية احد الاسبلة . شربت منه وغسلت وجهي . كان الماء عذبا وباردا , فجلست على دكة الرخام لالتقط انفاسي ... مرت امرأة مسرعة تتلفع بعباءة سوداء .. قلت - مساء الخير ..

توقفت المرأة عن جريها  قلت - هل مازال احد يعيش في المنزل ؟

قالت المرأة - ربما ..... وابتسمت فلاحظت اسنانها الذهبية

- وماذا عن هارون ؟

- هارون ... لست ادري من اخبرك ؟

- صبي المقهى . قلت

احكمت المرأة عباءتها على جسدها وواصلت سيرها .

قال سائق التاكسي الذي اوصلني الى المدينة .

- اغفر لي فضولي .. لماذا انت ذاهب الى هناك ؟

قلت - زيارة عادية للمكان الذي احلم به..

- ولدت هناك ... الان فهمت , جئت لرؤية عائلتك .

- لرؤية قريب , اسمه ابراهيم , هل تعرفه؟

قال مرددا الاسم عدة مرات - قريبك هذا شبع موتا ... مات منذ شهر . الجميع يموت في هذه المدينة الملعونة .

واوقف السيارة في مكان بعيد .-انزل .. لااستطيع الذهاب اكثر . انت قريب منها . ستصلها اذا عبرت هذا البستان .

اقتربت من السور الطيني الموحش البالغ الارتفاع بابوابه الثقيلةالموصدة والتي تجعل منه اشبه بقلعة محارب مارق . ....اخذت الشمس بالمغيب واختفى الصبية العراة.. طرقت الباب  الثقيل وصرخت - هارون .. هارون .

لكن احدا لم يجب .

دفعت الباب بحذر ودخلت فهجمت على انفي روائح عديدة . عفن ورائحة اعشاب طبية . بقيت متسمرا بمكاني حتى اعتادت عيناي الظلمة , فلمحت شبح المرأةالتي قابلتها في الطريق تحاول ان تشعل فانوسا قلت .

- اظن اننا التقيتا الظهيرة .

ابتسمت المرأة . رأيت اسنانها الذهبية تلتمع في الظلمة وسمعتها تهمس .

- ياللارواح المعذبة .

علقت الفانوس بساعدها ودخلت ممرا مظلما . فمشيت خلفها مهتديا بالنور . كانت ظلالنا تنتشر على جدران الممر وتختلط بصور مرعبة لمعارك وقتلى وصراخ ... كشف النور وجها مخيفا ملتصقا بالجدار وحوله رماح وسيوف ودماء ... انطلقت صرخة ثم همدت . شعرت بايدي تكمم الفم الصارخ .

- اشش . همست المرأة - لماذا تصرخ ؟

قلت - لست انا .

انا لااتكلم عنك .... انه لايكف عن الصراخ .

- من هو ؟!

- لا احد .... لماذا اتيت ؟

- احتاج الى مكان اقضي فبه ليلتي هذه .

قالت المرأة - لااعدك بغرفة فاخرة ...

توقفت المرأة عند احدى الغرف واخرجت حلقة مفاتيح كبيرة وفتحت بابها . كانت الغرفة حارة وخانقة وعلى جدرانها صور جيوش ومحاربين يتوسطهم الوجه المرعب ذاته الذي رأيته في الممر .

قلت - من هو ؟ واشرت الى الصورة .

وضعت المرأة الفانوس على المنضدة وسحبت الباب خلفها .

-حاول ان تنام .

لم استطع النوم رغم التعب الشديد الذي كنت فيه وكلما اغمضت عيني تنطلق تلك الصرخة المرعبة , فافتحهما واهرع ناحية الباب اتاكد من المزلاج , وخلال تلك الساعات الطويلة التي قضيتها مستلقيا على الفراش كنت اسمع ضجة واشخاصا ينقلون امتعة ويتهامسون . ثم سمعت صوت احد ما وهو يحاول جر شئ ثقيل . فنظرت من ثقب الباب وشاهدت المرأة ذات الاسنان الذهبية .

التفتت ناحية الثقب وقالت .

- الم تنم بعد ؟ .. تعال وساعدني .

فتحت الباب ووجدت الى جانبها صندوق كبير مرصع بمسامير مذهبة .

قالت - امسكه من القبضة الاخرى .. انه ثقيل .

حملت الصندوق معها حتى وصلنا الى سلم يقود الى العلية فنادت .

- هارون ... هارون .

نزل هارون من السلم بثياب قذرة وكرش ممتلئ وهو يردد - حاضر ياعمتي .

قالت المرأة - لست ادري ماذا افعل لولا وجود هارون .

لم اتبين وجه هارون في الظلمة كما انه لم يعبأ بوجودي .كانت تنبعث من جسده رائحة استمناء .

سحب الصندوق الى اعلى ونحن خلفه قال .

- اين اضع الصندوق ياعمتي ؟

قالت - ادخله الى غرفة الجد .

- لكنه لايفتح لي الباب .

- سأكلمه انا .

كانت العلية اشبه بمستودع كبير نقلت اليه امتعة واغراض كثيرة رصفت الى الجدران بغير انتظام . فوجدت بها الجرذان مكانا امنا , وكنت اسمع قرضها الذي لايتوقف .

سألت المرأة - هل يعيش آخرون هنا غيرك وهارون ؟

قالت - نعم , الجرذان والموتى .

ثم جرت الى غرفة وطرقت الباب بشدة .

- افتح ياعبد القدوس ... انا صفية .

ثم كررت الطرق بالشدة نفسها - افتح ياعبد القدوس .. ياللعجوز المسكين , كبر حتى ماعاد قادرا على الزحف .

فتح الباب على مهل واطل منه عجوزلايغطي جسده سوى مئزر حائل اللون .

قال العجوز - صفية ... اين كنت كل هذا الوقت . ذهبت وتركتني وحيدا بدون طعام .. اكاد اموت من الجوع حتى بدات آكل الخشب .

قالت - ها عدت للشكوى من جديد .

-انا جائع ياصفية .

- اخرس ياعبد القدوس .... لماذا تكذب ؟ هارون يعني بك اكثر مما يعني بنفسه

   

- لاتكلميني عن هذا الهر . انه يفعل كل شئ من اجل ان اموت . انه يطعمني الجرذان .

-هذا غير صحيح ياجدي , وانت لن تموت .

ساموت ياصفية . قريبا ساموت وسيرتاح الجميع مني .

- سمعت هذا قبل ثلاثين عاما وانت تعيده علي كل يوم . ان عزرائيل نسيك فيما يبدو . والان افسح لنا الطريق .

ابتسم العجوز بمكر فظهر له سنان منخوران في مقدمة فمه وتنحى عن الباب .

-كما تشائين ياابنتي .

ثم تطلع الي بعينين صافيتين وقال .

- من هذا ياصفية ؟ أهو عريسك ؟.

قال هارون وهو يجذب الصندوق بعنف الى داخل الغرفة .

- لم ار في حياتي ناكر جميل مثل هذا الرمة . يقول اني اطعمه الجرذان . ابن الفاعلة .

مد العجوز اصابعه الطويله المتقرنه وامسك بذراعي .

- من هذا ياصفية ؟

- انه زائر ياجدي .

- تزوجيه ياصفيه انه احسن من هرك هارون .

- اخرس ياجدي .

قال هارون - اسمعي ياعمتي لم اعد اتحمل اكثر .

وضعت صفية اصبعها على فمها وقالت .

- اشش . لااريد ان اسمع منك كلمة انت الاخر .

ثم اتجهت بحديثها للعجوز - اسمع ياجدي . انه الصندوق الذي طلبت مني ان انقله الى غرفتك .

- حسنا يابنتي .. اتركي لي فانوسا هنا . احتاجه حينما اعمل . احتاج الى نور كثير .

- سافعل ياجدي , وساشعل فانوسك ايضا .

ركض هارون واشعل الفانوس , تبسم العجوز واستطعت ان اراه بوضوح .

كان هرما جدا وكأن مئات السنين مرت عليه . نحيفا جدا وقد التصق جلده بعظامه وتساقط شعره ولم يتبق منه سوى شعيرات حمر على حنكه تمنحه مظهرا مضحكا وسط غرفة غريبة تعج باشكال منحوتات بشرية من الخشب والطين , تنتشر بفوضى على الارض والرفوف وقسم منها وضع بغير ترتيب على النافذة .

تمعنت طويلا بتلك المخلوقات الجميلة والبشعة . رجال غلاظ مفتولي العضل وفتيات واطفال يشبهون بعضهم وكأنهم ينتسبون لعائلة واحدة واب واحد . نساء جميلات وعجائز كالساحرات , رعاة اغنام وبحارة ومتسولون . رجال دين بعمائم ضخمة ومسبحات سوداء . كتبة ووراقون بثياب بيض ملوثة بالمداد . رجال من طين وخشب يحدقون بي ويتساءلون.

ناس شعرت باني انتمي لهم او رايتهم في احد الايام. مخلوقات جالسة او واقفة بعضها يمد يداه يطلب شيئا فلا تسعفه اللحظة فيصمت للابد .

مئات من البشر يتزاحمون على مكان في غرفة خانقة وعبد القدوس يجلس وسطهم , هرما لايريد ان يموت . رآهم جميعا ثم سمرهم باشكال لاتفنى .عالم من الدمى بالغة الجمال بالغة البشاعة لايعوزها شئ سوى النطق . قول شئ ما للمرة الاخيرة .

وجه صبية خارقة الجمال ارادت ان تنطق بشئ فاخرسها الموت .

امتدت يداي ناحية الصبية خارقة الجمال واردت امساكها . ضربني عبد القدوس بقسوة على كفي واخذ بالصراخ كالاطفال .

- قمر ... قمر .

واخذت دموعه تسيل على خده - ابعد يديك الاثمتين عنها . لاتلمس قمري .

قالت صفية - ارجوك لاتلمس شيئا .

- قمر ... قمر ...

ازاحت صفية بعضا من القطع وافسحت مكانا للصندوق .

- كفى ياجدي , لن يلمسها احد .

- اخرجوا من غرفتي ... اخرجوا ياملاعين .

- لاتزعق ياعبد القدوس .. اهدأ الان .

زحف العجوز على مؤخرته واخذ بتفقد مخلوقاته ووضع (( قمر )) الى جانبه حتى هدأ .

خرجنا من الغرفة , فاغلقت صفية الباب خلفها . قلت ونحن ننزل السلم .

- من هو ؟

قال هارون وهو يكشف عن اثنين وثلاثين سنا ذهبيا . - انه الجد عبد القدوس .

كانت اجابته الغبية وحدها السبب في رفع نظري اليه . التقت أعيننا فشعر بالارتباك وكأنه صبي . وجه سمين قذر غير حليق وثوب مبقع بالدهون وآثار الاستمناء يغطي كرشا ضخما .انه اقرب للصبي الخادم منه لعشيق سيدة المنزل .

قالت صفية - جدنا عبد القدوس . هذا كل ما اعرفه عنه . انه جد الجميع .اتيت الى هذا المنزل فوجدته بنفس هذه الصورة كما وجده الاخرون قبلي .

قال هارون  - انه لايموت !

- لااحد يعرف جد من هو . ان عمره اطول من ذاكرتنا واطول من ذاكرة (( الناصرة )) .

ضحك هارون فاهتز كرشه - ربما هو عزرائيل !

صفعته صفية على قفاه فتكور على نفسه وهو يردد - استغفر الله , استغفر الله .

- اخرس ياهرون لاتجدف .

- نعم ياعمتي .

- كم مرة حذرتك ... اذهب الان .

هرول هارون وهو يحمل الفانوس بساعده . قالت .

- هارون شاب طيب القلب . مازال يظن نفسه صبيا . انه خدوم ويساعدني باعمال المنزل . المنزل كبير ويحتاج لايدي كثيرة تعني به . ساذهب الان لاتاكد من اقفال الابواب . انه مشوار طويل علي ان اقوم به كل ليلة قبل ان انام . اذهب الى غرفتك الان .

 

 

**************

 

 

استلقيت على الفراش وبمجرد ان اغمضت عينيّ سمعت حفيف عباءة تجول في المنزل . كنت متعبا فتجاهلت ذلك الوقع الرتيب وحاولت ان انام . اقترب الحفيف من باب الغرفة وسمعت طرقا .

حملت الفانوس وفتحت الباب بحذر ... فشاهدت امراة تعدو بين الغرف . بقيت متسمرا بمكاني للحظات . التفتت المراة ناحيتي . كتلة سوداء لايبين منها شئ . مغطاة من الرأس حتى القدم بالسواد . اشارت لي وهرولت بعيدا فابتلعتها الظلمة .

لاحقت الكائن الاسود في ممرات المنزل المخيفه . اهتدي بضوء الفانوس وحفيف العباءة . صادفت في طريقي غرفا مهملة تجوس فيها القطط ويسكنها الزعيق . غرفا مخلعة الابواب والشبابيك تجاوزها الطيف الاسود ثم ولج دربا ضيقا واختفى .

دخلت خلفها الدرب فاخذ الظلام يضغط على رئتي ويخنقني وشعرت بهواء بارد يلفح جسدي . تيار قادم من الاعلى . فرفعت رأسي الى الاعلى وشاهدت السماء . حينها تأكد لي باني قد اصبحت خارج المنزل وفي واحد من ازقة المدينة المهجورة .... بدأت اشعر بالزقاق يضيق واخذت الجدران تحتك باكتافي ... ومن بعيد لمحت ضوء فانوس يتهادى ويتقدم ناحيتي . فاقشعر جسدي وتسمرت بمكاني . حمل تيار الهواء البارد رائحة ( ناردين) وبرز قوام جميل لانثى مغطاة بالسواد لايظهر منها سوى عينين واسعتين لم اجد فيهما اي اثر للذعر او المفاجأة .

تحركت شفتاها من خلف البرقع .

- اتبعني ياعبد الله ...

كان وجهها قريبا مني حتى شعرت برائحة (( الناردين )) تملؤني .

قلت - من انت ؟

قالت - ليس مهما من انا ... ستعرفني فيما بعد . تعال معي .

استدارت المرأة ومشت امامي فلاحقتها . كنت اشعر بالعطش وكانت رائحة الناردين تخفف عطشي فاسرعت خطوي ودخلت تحت عباءتها المتطايرة املأ انفي بذلك الاثير واطفئ ظمئي . توقفت فجأة وهمست في الظلمة .

- بماذا تفكر ياعبد الله ؟

- انا عطشان .

مددت عنقي وتشممتها .

لاتنصت لشياطينك ياعبد الله . اعرف بماذا تفكر , واذا مافارقتك غاضبة فلا تلومن الا نفسك . ستتيه في الظلمة ولن تجد طريقك ابدا .

كان انفي قريبا من خدها . قلت بحشرجة .

- ان اسمي ليس عبد الله . انا لست الشخص الذي تنتظرين .

قالت - انت مخطئ ياعبد الله . انا بانتظارك منذ المساء . ومن الافضل لكلينا ان اسير خلفك .استدارت ناحيتي ولملمت اطراف عباءتها بقبضة يدها والصقت جسدها الى الجدار لتفسح لي طريق العبور حتى اتقدمها .

قالت - الصق جسدك الى الجدار ولاتحتك بي حينما تعبر .

دفعت جسدي الى الاتجاه المعاكس فاحتوينا بعضنا لثوان . ثوان كافية لسرقة تلك الرائحة العذبة ... افلتت جسدها فاهتزت اثدائها على صدري واصبحت خلفي .

قالت بانفعال - تابع طريقك ياعبد الله , فانا موكلة بايصالك .

تابعت الطريق الموحش ولم اعد اسمع خلفي شيئا سوى حفيف العباءة .... انفتح الدرب الضيق على باب مغلق يجلس غلى دكته شيخ لطيف .

قالت - انه العم درويش .

تمعن بي العم درويش طويلا وقال .

- اسمعي يا (( قمر )) من الافضل لضيفك ان يستحم قبل ان يذهب . ان جسده غير طاهر .

زمت الفتاة شفتيها وقالت بلغة أمرة - اتبعني .

طرقت الباب ثلاثة مرات بقبضة يدها . سمعت صوتا يأتي من الداخل .

- من الطارق ؟ .

- انا قمر ... افتح يا (( رومان )) .

- هل اتيت بالوديعة يا قمر ؟ .

-انه معي .. افتح يارومان .

فتح الباب فدخلت وسحبتني خلفها .

- لاتخف ادخل .

رأيت حوشا واسعا تتوزع عليه ثلاث غرف وتتوسطه حديقة اعشاب ميزت منها بضعة اعشاب وزهور اعرفها جيدا . خرشوف وداتوره وحبهان وكركديه وزهور ناردين هجمت عليها ولكتها لاطفئ ظمئي الذي لاينقطع .

علقت قمر عباءتها على الجدار الى جانب اثنتين اخريين . فاستطعت ان اراها بوضوح .

المنزل المضاء جيدا منحني هبة التطلع الى ذلك الكائن الجميل الملفع بالسواد . وكنت انتظر اللحظة التي ترفع فيها البرقع عن وجهها فارىانفها وفمها عريشة الناردين .رايت عينيها تبسمان وتقرءآن ماافكرفيه قالت .

- ادخل ذلك الباب .

واشارت الى باب على جهة اليسار - اذهب واستحم ولاتتحامق .

وغمزتني بطرف عينيها الباسمتين .

قلت - هل ساجدك بانتظاري حينما اخرج ؟

- اذهب الان ....

اتجهت ناحية الباب وحينما حاولت فتحه لم ينفتح . قالت

- اطرقه ثلاث طرقات .

طرقته ... وصلني صوت .- من الطارق ؟

قلت - انا عبد الله ... افتح يارومان .

ابتسمت قمر ثم ضحكت بعذوبة واختفت خلف احد الابواب .

فتح الباب فاحتواني البخار الحار . نزعت ملابسي وجلست على دكة رخام ابيض تناثرت عليها اوراق (( كافور )) . وتركت جسدي يتعرق .

وضعت رأسي بين ركبتي واسلمت روحي لذلك السلام .اغمضت عيني وشعرت بكف رقيقة تمسد ظهري وتغسل جسدي .

- لاتلتفت ياعبد الله .

صدر الهمس من خلفي ففتحت عيني . صعدت الكف المربكة الى رقبتي وغسلتها ... ارتعشت على صدري فرأيت كفا جميلة بيضاء مزينة بخاتم ذي فص اسود .. امتدت ذراع اخرى تحمل قدحا ووضعته على شفتي - اشرب .

كان الشراب باردا اطفئ ظمئي الدائم . سرى بجسدي فشعرت بالخدر وكأني شربت رطلا من الكحول .

قالت - جذف الان ياعبد الله . سنذهب في رحلة .

انساب الماء من فتحات وحمل الدكة فتحركت بنا ببطء واخذت تتقلب وسط الماء وتجري ناحية ابواب تفتح حالما نقترب منها .

قلت - الى اين نحن ذاهبان ياقمر ؟

قالت - لماذا تسميني قمر ؟

- انت قمر ... اعرفك , واعرف رائحة الناردين من على جسدك .

التمع الخاتم الاسود في ذلك التيه ورسم اشكالا سحرية اخذت تتراقص وسط عتمة الطريق والبخار .

دفعت الدكة بابا هائلا من الحديد وانسابت بهدوء الى الداخل وكشفت عن مدينة تغفو على ضفاف نهر وعلى ابوابها ينتظر الاف المخلوقات الجميلة والبشعة . وقفوا صامتين ينظرون الي بعيون حيرى .

قالت - لاتنظر اليهم والا مزقوك .

قلت - كأني اعرفهم .

- انهم مخلوقاتك التعسه . تلك الكائنات المسكينة التي كنت تلهو بخلقها .

تحركت جموعهم ناحية الدكة مهددة باغراقها .

- ماذا يريدون ؟

- انهم تائهون في هذا البرزخ لاينتظرون شيئا .

- هل هم موتى ؟

-انهم ليسوا بشرا حتى ينالهم الموت . باللمخلوقات التعسة .

- لم اكن ادري ....

اقتربوا اكثر حتى اني سمعت فحيح لهاثم وهم يتزاحمون حولي .

غمغمت - خذيني من هنا يااختاه .

طوقت ذراعاها صدري فرأيت انعكاس اشباحهم على الفص الاسود وهم ينهشون جسدي . قطعوه بالخناجر والسيوف وسكاكين المطبخ ولاكوه . ... ثم ابتعدوا . دخلوا مدينتهم الحائرة يجرون اجسادهم المعذبه في ذلك التيه الذي صنعته آثامي .

قالت - انهم يتعذبون .

قلت - ليسامحني الرب .

- .....

ران صمت عميق على المكان حتى البخار هدأ وكأنه كف عن حملنا .

 

 

 

*********

 

 

سمعت طرقا خشنا على الباب .

- عمتي تدعوك على العشاء . قال هارون

فتحت عيني بصعوبة وكنت اشعر بالم في رأسي .

- رأت عمتي ان لانوقظك حتى المساء .

سألته عن الحمام فاخذني اليه . كان غرفة صغيرة يتوسطها برميل مملوء بالماء البارد ... اغترفت منه وغسلت جسدي فاستعدت بعضا من نشاطي , وحينما انتهيت وجدت هارون ينتظر عند الباب . قال

- سأرشدك للمطبخ .

وسار امامي - اذا كنت تخطط طويلا للبقاء في هذا المنزل فعليك ان تكون حذرا خوفا من ان تضل طريقك ... المنزل واسع وفيه العديد من الدهاليز المظلمة .

كنت اود لو انني استيقظت مبكرا لكي يتسنى لي ان ارى المنزل في ضوء النهار وادخل الممر المظلم الضاج بالصور المخيفة والوجه المدور العنيف ... كان هارون كعادته يتنقل بخفة امامي وهو يعلق الفانوس بساعده ويرتدي نفس الثوب المبقع بالدهون ويتحدث كالنساء .

قال - سمعت انك تبحث عن ابراهيم ... هل هو قريبك ؟

قلت - نحن ابناء عم .

قال - آه ....

اعترضت طريقنا بعض القطط واخذت تحتك بساقي هارون .قال .

- حسنا .. حسنا . ساجلب لكم الحليب . ثم التفت الي واكمل . نربي القطط لنطرد الجرذان . المنزل قديم وفيه جرذان كثيرة .

دخلنا مطبخا كبيرا يتوسطه تنور مشتعل وقدور تغلي , تعني بها فتاة جميلة تتحرك بنشاط وسط خشخشة اساورها وحليها .كانت صفية جالسة على بساط وامامها اطباق الطعام .

قالت حالما رأتني - اعلم انها ليلة صعبة ,لذلك تركتك تنام .

التفتت الفتاة الجميلة وتطلعت الي باهتمام ثم ابتسمت .جلست الى جانب صفية .

- كنت اسمع حفيف عباءة . امرأة تعدو في المنزل .

قالت - ربما كنت تحلم .

- ربما ....

قال هارون - سأحمل الحليب للقطط والعلف للحيوانات ... ثم سأتفقد الجد العجوز .

قلت - هل في المنزل حيوانات غير القطط .

- نعم .. نربي الحيوانات في (( الخرابة )) بقرتان وخراف وبعض الطيور . هارون يحب الحيوانات كثيرا .

حمل هارون اواني الحليب وقبل ان يخرج التفت الي وقال .

- ارسلت من يبحث عن ابراهيم .... ابن عمك .

ضغط على الكلمة الاخيرة وخرج . قالت صفية .

- يبدو انه لايحبك .... لاتعبأ به .

بعد ان انتهيت من طعامي جمعت صفية الاطباق الفارغة وحملتها بعيدا .

قالت الفتاة - اذا كنت تبحث عن ابراهيم فان الجد عبد القدوس يمكنه ان يساعدك . انه يعرف كل ابناء المدينة الاحياء والموتى .

- هل يمكنني ان أساله ؟

- رأيت مافعل الليلة الماضية ... تحتاج لان تكون صديقه حتى تتحدث معه .

قالت الفتاة - دعيه يجرب ياخالتي .

- حسنا بشرط ان لاتلمس شيئا من غرفته .

قلت - سافعل .

قالت الفتاة - طعامه جاهز .

وناولتني السلة التي تحوي طعامه فبرق من اصبعها فص الخاتم الاسود .

غمغمت - قمر ..

قالت - انا لست قمرا ... اختي الكبرى اسمها قمر .. انا (( ست الحسن )) . قل لي كيف عرفت اسمها ؟

- ربما كنت احلم .

- انت غريب ... قمر ماتت منذ زمن طويل .

- هل تشبهك كثيرا ؟

- نعم انها تشبهني ... لايمكن ان تكون قد رأيتها .

قلت - و  رومان ؟!

ضحكت الفتاة - من هو رومان ؟ لااعرف احدا بهذا الاسم .

 

نظرت بعينيها فارتبكت . قالت

- انت تخيفني .

-  متى ماتت ؟

 - لااتذكر ... لااريد ان اقلق نومها .

امسكت بكفها وتطلعت بالخاتم ... سحبت يدها بعنف .

- كيف تجرؤ ؟

- هل هو خاتمها ؟!

زمت شفتيها بقسوة واسرعت خطوها ناحية السلم حيث غرفة عبد القدوس ,فأمتلآ انفي برائحة الناردين . الرائحة ذاتها التي بقيت ملتصقة بجسدي , لاتريد ان تغادره . رائحة رحلة ليلة امس . قلت .

- ياللعطر العذب !

- انه خلاصة الناردين . قطرة واحدة تجلب الحظ الحسن وتمنع العطش .

- هل كانت قمر تستعمل هذا العطر ؟

- كانت تزرع بعض الاعشاب المفيدة .

- رأيت عريشة تضم اعشابا خيرة .

- لاتخلو عريشة من نباتات مفيدة . الفرق اننا لانميزها بسهولة .

- انني اعجب من بتلة (( اريانت )) مزروعة في منزل . ان ذلك مريع .

توقفت في منتصف السلم وقد اصابها الذعر .

- هل تؤمنين بقدرات تلك العشبة ؟!

-  كلا ... لااظن ... لاشئ بامكانه ارجاع الموتى .

- اذن انت تعرفين فوائدها ؟

- مجرد حكايات سمعتها من هنا وهناك على قدرتها في احياء الموتى .

كنت الحظ جسدها الذي اخذ بالارتجاف . فاردت ان اعرف اكثر لازيل شكوكي .

قلت - اين دفنتم قمر ؟

- في المقبرة .

- داخل المنزل ؟

- لم اكن معهم تلك الليلة ... كنت في حالة سيئة .

- من هم ؟ .... صفية وهارون ؟

- كان والداي معهم والجد عبد القدوس . كنت مريضة جدا حتى اشرفت على الموت ايضا .لم استطع ان اذهب معهم كنت اصارع الموت .

- لماذا ؟ قلت

قالت بانهاك - انها غرفة الجد عبد القدوس . وعادت ادراجها .

قلت - وماذا عن زهرة (( مر المجوس )) ؟

- انا غير متزوجة . قالت .تلك العشبة غير صالحة للعذارى .

ثم اختفت .

طرقت باب الجد . فسمعته وهو يجر جسده على الارض حتى اقترب من الباب وفتحه .

- هل اتيت ياعبد الله ؟ .... لماذا تأخرت ؟

ثم عاد يزحف وجلس وسط مخلوقاته . كان هناك نور ضعيف ينبعث من فانوس في الزاوية . وكانت رائحة الغرفة مزعجة . عفونة وعطن اجساد . رائحة مقبرة ربما او موتى لم يقبروا .

وضعت السلة بين ساقيه فرفع الغطاء واخذت اصابعه تتلمس محتوياتها ثم وضع راسه بداخلها وبدأ يلتهم .

كان الصندوق الكبير في مكانه الذي تركناه ليلة امس والى جانبه رأيت قطعة خشبية منحوتة على شكل رجل لم تكتمل بعد .

قلت - من هذا ياجدي ؟

اخرج راسه من السلة وهو يلوك وعلى جانبي فمه علقت اوراق اعشاب طرية . قال

- انهم موتى ... ماتوا جميعا وتركوني وحيدا .

اشرت الى القطعة غير المكتملة . - من هو ياجدى ؟

- آه ... تقصد عبد الله .. مات الليلة الماضية ... عاد ليموت هنا .

- لكني لست ميتا ...

قهقه العجوز وبرز سناه الصفراوان .

- كلهم يقولون هذا في البداية . لااحد يصدق بسهولة .

- انت تهذي ايها العجوز .

- كلا انت ميت لكنك ترفض الذهاب . مازالت روحك تعاند . سوف تذهب حينما تشعر بلا جدوى وجودك على الارض .

- انا لست ميتا ايها العجوز .

- اذهب الان .. اذهب .

حرك يديه وكأنه يطرد شبحا .- اذهب .

قلت بيأس - اسمع ياجدي جئت ابحث عن ابراهيم . دعاني لزيارته فجئت . هل بامكانك ان ترشدني لمكانه .

- ابراهيم ... لست ادري اصبحت ذاكرتي ضعيفة .سأبحث عنه .

وراح يبحث في اكوام المخلوقات وهو يردد . - اين انت يا ابراهيم ؟

ثم ضحك وهو يخرج منحوتة آخذت بالتاكل . - اهذا هو ؟

تمعنت بالمخلوق الصامت وقلت . - ربما .

- مات منذ شهر ... لكنه خير منك لم يكن متشبثا بالارض كما تفعل انت والاخرون .

- من الاخرون ياجدي ؟! هل تقصد قمر ؟

- واأسفاه لماذا تموت قمر ؟

اخذ العجوز بالبكاء . وضع رأسه بين ركبتيه وانتحب .

- آه ياعبد الله لوتعرف كم هي طاهرة ونقية .

- اعرف ياجدي .. اعرف . قابلتها ليلة امس .

حدق بي بعينيه الصافيتين وقال - رأيت قمر ... ان ذلك غير ممكن . انها نائمة هناك .

هناك في الداخل .

واشار بيد مرتجفة الى الصندوق المذهب .

- آه ... لو رأيتها ياعبد الله لامتلا قلبك بالايمان .

قلت - دعهم يدفنوها ياجدي .

زحف العجوز ناحية الباب وفتحه لي .

- اخرج .

 

 

*********

 

 

 

 

عدت الى المطبخ , لم يكن احد هناك سوى القطط وقد مدت رؤوسها في القدور تبحث عن بقايا الطعام , فاخذت فانوسا ورحت ابحث عن غرفتي . لم اكن اشعر بالخوف من المنزل او الغرف المظلمة وكأني تآلفت معها . كنت اريد ان اصل الى غرفتي باي ثمن لاني اعرف ان الطريق الى قمر يبدأ من هناك . من هناك استطيع الاهتداء الى الدرب الضيق حيث ساقابل قمر .

مررت بغرف عديدة مغلقة الابواب ولم اكن اعرف اي منهن غرفتي . فتحت احدها فصفعتني رائحة الموت . كان في الغرفة فانوسا يبعث ضوءا خافتا وعلى السرير شخص ما نائم . نائم بعمق فاغلقت الباب بهدوء , لم ار وجهه جيدا لكنه كان نائم بعمق ... جربت ان افتح الغرف الباقية لكنها كانت مقفلة من الداخل . وكنت ادعو بسري ان يصادفني هارون او صفية . وفكرت كيف لهم ان ينسوني بهذه السرعة .

ماءت احدى القطط والتمعت عيناها بالظلام . القطط تحوم حول هارون ولابد ان يكون قريب من هنا . .... سمعت همسا ياتي من احدى الغرف فادرت مقبض الباب فانفتح . رفعت الفانوس الى اعلى ولم يكن هناك سوى صوت الريح تعوي في الغرفة . كانت خالية ومهجورة ونافذتها مفتوحة وتطل على الخارج . خارج المنزل . على الخرابة التي يربون فيها الحيوانات . رأيت البقرتين والخراف والطيور .

تحرك فانوس في الظلمة وجاء شبحان ناحية الحيوانات . لابد وانهما صفية وهارون ... اردت ان اصيح بهما واسالهما عن غرفتي . كانت صفية تحمل سطلا وضعته تحت احدى الابقار واخذت تحلبها .

قال هارون - لابد وانه رحل .

- نعم ... انا متاكدة انه رحل

استلقى هارون على كومة العلف . - يالها من ليلة طويلة ... صفية .

- نعم ياهارون , ماذا تريد ؟

- تعالي الى جانبي ياصفية .

- لماذا ياهارون ؟

جأر هارون واخذ يغني باسمها . صفية , صفية . تحركت البقرة ودلقت الحليب . كان القمر بدرا وصوت هارون القوي والشبق ينذر بان كل شئ على حاله .

- اخفض صوتك ياهرون .

- صفية , صفية .

غمغمت المرأة ونفضت الحليب العالق باصابعها ثم استلقت الى جانبه على كومة العلف . خلع هارون ثوبه المبقع بالدهون ووضعه تحت رأسها وهو يلهث .

- هارون لاتلقي بثقلك كله علي . انت تحطم عظامي .

- انت تحبين هذا ياصفية .

- خفض صوتك .

- ومن سيسمعنا ... ليس غير الابقار والخراف هنا .

- لاترفس هكذا كالبغل ياهرون .

كانت صفية تئن تحت كرش هارون . كانت السماء شديدة الزرقة وكأنها تدعوني للعبور . تراجعت بحذر الى الخلف لكي لااقطع خلوتهما , لااقطع بهجتهما بالحياة ... خرجت من الغرفة ابحث عن غرفتي .

درت طويلا في ممرات المنزل ابحث عن فراش آوي اليه وسمعت من بعيد هبوب العباءة عريشة الناردين . رأيت الطيف المجلل بالسواد وشاهدت العينين الجميلتين تخترقان الظلمة .همست - قمر ....

مر الطيف الجميل عابرا , الجسد الفتي , حقل الاعشاب الغامضة . لاحقتها حتى اصبحت تحت العباءة المتطايرة وامتلات بنشوة الناردين .

- الى اين ياقمر ؟!

لم تلتفت ناحيتي كانت تسير الى الامام ناحية ضوء خافت يصدر من مقبرة .. سارت بين القبور الى الضوء الخافت وجثت عند صندوق مرصع بمسامير مذهبة . فتحت غطاؤه وغمرته باعشاب الاريانت .

ثم استدارت نحوي . وتحركت شفتاها من خلف البرقع .

-ا لى اين تريد يافنان الذكريات ؟

قلت - فقدت طريقي ثانية ياقمر .

مدت كفها ناحية وجهي وتحسسته فلم ار الخاتم ذي الفص الاسود .

- انت لست قمر .... ؟

قالت - وجهك آخذ بالذبول .... انت تحتاج الى المزيد .

فتحت الصندوق ثانية ونثرت فيه المزيد من تلك العشبة الغامضة .

- ستتحسن قريبا ... سيعود الدم الى وجنتيك ببركة الاريانت .

اشرت الى الصندوق - من بداخله ؟

قالت - انت يافنان الذكريات ...

صرخت - انت لست قمر ....

هبت ريح عاتية فارتفعت العباءة . قالت

- قمر ماتت منذ زمن طويل .

- من انت .... ؟

- سترى ..... سترى .

 

 

 

*********

 

 

 

 

فتحت عيني على بياض باهر ... اغمضتهما بسرعة خشية ان يلتهمني ذلك البياض , وشعرت بكف رقيقة تمسح وجهي . شممت منها رائحة الناردين . صدر همس خافت .

- لاتخف ... افتح عينيك ..

- ماكل هذا البياض ؟

قالت - افتحهما وسترى .

فتحت عيني على فضاء واسع . سلام صاف ترفرف فيه ملائكة وحقول واسعة ترعى فيها الغزلان الى جانب الذئاب , والكلاب مع الهررة وبنات آوى مع الدجاج . وفيه اشجار محملة باصناف الثمار تعشعش فيها العصافير الى جانب العقبان وبشر فرحين يطيرون بدون اجنحة .

همست - ياللجمال ... كأنه حلم المدينة المعكوسة .

قالت - كنت تحلم طويلا بمثل هذا المكان .

- حلمت به طويلا .

قالت - اتذكرك حينما اتيت اول مرة .. كنت نحيفا وطويلا , رأيتك واقفا عند سور الناصرة تنتظر من يفتح لك الباب . انا اول من رآك واحبك وصرخ باسمك . رأيتك ثانية قرب دكان الجواهري الذي امهر قمر بدرب من الفضة . قابلتك في الممر الضيق والصقت نهداي بصدرك وكنت اظن باني قد اشعلت الحب بقلبك . انت الذي رسم المدينة ودروبها والممر الضيق والمعارك والوجه المدور العنيف . كنت ترسم خوفك على الجدران . ماكان اجملك يافنان الذكريات وانت تطرق بابنا . ركضنا سوية انا وقمر لنفتحه . تعاركنا على من تفتح الباب اولا فسبقتني هي . ... ابتسمت لنا وقلت - اهلا انا فنان الذكريات . ومسحت العرق عن جبينك ... ضحكنا طويلا من عباراتك المنمقة وملابسك وحركاتك وحقيبتك الحديدية التي كنت تكافح بحملها . ضحكنا منك وانت ترسم على الجدران وفي الممر المظلم . كنا نصرخ في الممرات الملتوية مااسمك يافنان الذكريات , فيعود صدى اصواتنا فنان الذكريات . ... انت الذي رسم هذه الغرفة . طلبت منك ان ترسم لي مكانا احلم به واراه حينما افتح عيني عند الصباح . فرسمت لي هذه الجنة. ماكانت احلاها من ايام يافنان الذكريات .

قلت - لااتذكر شيئا .. من انت ..؟!

- انا (( ست الحسن )) شقيقة قمر ..

- كيف وصلت الى هنا ؟...

- وجدك الرعاة خارج المنزل وحملوك الى هنا .

كانت اطرافي يابسة وفمي جاف قلت - اشعر بالعطش ...

قربت اصابعها من فمي , تلك الاصابع المضمخة بعطر الناردين فلعقتهما واحدا اثر الاخر .

ضربتني على كتفي - انت تدغدغني .

لعقت كفها وراحة يدها .

- هل انت عطش حقا بهذا الشكل ؟

لعقت كفها الاخرى واصابعها فشعرت بقليل من الراحة .

كانت تتوسط الغرفة منضدة عليها مرأة زينة وقوارير عطر واعشاب يابسه , الوه وقرفة ودردى وزهرة مر المجوس . ... نهضت من مكاني وتطلعت في المرآة . لم يكن هناك احد يقابلني ويتطلع الي كالعادة ..... رأيت المرآة تكرر الجدران والغيوم والغزلان , تكرر السقف والسرير وقوارير العطر والاعشاب , ورأيت ست الحسن على السرير تضع يديها في حجرها . كانت جميلة جدا وحزينة جدا . تحدق بالفراغ .

قلت - اين اجد قمر ...؟

ضحكت الفتاة بحزن - قمر ..... ماتت .

فتحت باب الغرفة وتطلعت الى الخارج .

قالت - الى اين .؟!

- سأبحث عنها .

شاهدت عريشة الاعشاب الغامضة فعرفت اني في المنزل الذي دعتني اليه قمر تلك الليلة . اتجهت ناحية الباب الذي علقت عليه عباءتها , فوجدتها هناك شممت منهاا لعطر الحميم

. تنفست رائحتها التي تملآ المنزل ورحت ابحث عنها .لاحقت الرائحة في الغرف كلها عسى ان اجدها هناك .فوجدت عجوزين يصليان , تجولت في غرفتهما فلم ينتبها لوجودي , ذهبت ناحية الحمام , نزعت ملابسي فرأيت عليها آثار طين وجذور اعشاب طرية .

جلست على الدكة . كنت متعبا من الضياع فهمست بالظلمة .

- قمر ....

وضعت رأسي بين ركبتي فألتمع الفص الاسود على صدري .

قلت - اين انت ياأختاه . ؟

- كنت انتظرك تأتي .

- كنت ابحث عنك . اريد ان ارى وجهك .

- ان ذلك غير ممكن الان .

- متى سأراه ؟

- حينما تكمل الرحلة وتجد الطريق .

-الى الموت .

- لقد تجاوزت الموت .... انت الان تائه وتريد من يأخذ بيدك الى الاعلى ... لم تعد الارض مكاتك . لابد ان تذهب .

- هل ستساعديني ؟

- سآخذك .... قل لي ماهذه الرائحة ياعبد الله .؟

- انه الناردين . كنت عطشا فشربته من اصابع ست الحسن .

- اشم من جسدك نبتة الشيطان . هناك من يحاول ابقاؤك على الارض , يعالج جسدك بألاريانت ... ان ذلك مريع .

انتحبت قمر , وضعت رأسها على ظهري واخذت بالنحيب .

- لماذا تبكين ياقمر .؟

- آه لو انها تدري ... لما فعلت هذا.

- من هي ؟!

- لوتدرك هول الرحلة لما فعلت هذا .. المسكينة البائسة ست الحسن .

انسابت الدكة ببطء وحملها البخار بعيدا.

- انا خائف الى اين نحن ذاهبان ؟!

- الى مكان تستطيع فيه ان تهرب من جسدك المعذب .

- قمر ...

تنفست بعمق ولم تجب . كنا متجهين ناحية مرآة عملاقة يغطيها الضباب ومن حولنا سكون شامل ومخيف لايشوبه سوى هدير البخار الذي بدأ يتكاثف بشدة كلما اقتربنا منها .. صعدت الدكة قليلا فقليلا الى اعلى ناحية المرآة ... شعرت بيديها تضغطان على صدري بقوة .

قالت - أجبهم ....

- اجيب من ؟ .... وبماذا ؟!

كنا نقترب من المرآة التي شرعت اقطابها وبدأت تسحبنا الى الداخل .

- اسرع أجبهم ...

اغمضت عيني فازداد جريان الدكة . انطلقت بسرعة هائلة الى قلب المرآة , اخترقت الضباب الذي كان يفتح لنا افواها تريد ابتلاعنا . ببسم الله ياملائكة النور . ببسم الله ياملائكة الهدى . شعرت بالمرأة تلتهمنا وتغلق اقطابها علينا .

 

 

 

*********

 

 

 

- ماذا تفعل بالداخل ؟

اشتد الطرق على الباب .

- هل نمت داخل الحمام ؟

ارتديت ملابسي وخرجت .... كانت ست الحسن تنظر لي وتبتسم .. امسكت يدي وقالت

- تعال معي .... يالشحوب وجهك . .. انصت لي يافنان الذكريات . لافائدة من تشبثك بالماضي .. قمر ماتت وسوف لن تجدها ثانية .. انها لن تعود .

- لماذا ياست الحسن ؟ لماذا تفعلين هذا ؟!

صمتت طويلا ثم ابتسمت .

- لانني احبك يافنان الذكريات .. ومافعلته لاجلك .. لااريدك ان تغادرني ثانية .. سأعيد الدم الى وجنتيك وسأطلقك ترعى في دفيئة الاريانت .سأبث الحياة في جسدك وامنحك انفاسي وذاكرتي واحلامي . ستكون ظلي او اكون ظلك . لن تغادر وحدك سيلاحقك ظلك الاخر وسنعبرسوية الى الجنة او النار . تعال ياحبيبي . سأفرجك على المنزل .

أخرجت خيط حرير احمر وربطته بساعدي ثم ربطت طرفه الاخر الى مسمار معلق بالجدار .

- انها حيلة قديمة علمتني اياها امي حتى لااضل طريقي في المنزل الكبير .

وضعت يدها الدافئة على كتفي .

- لكم احبك يافنان الذكريات .

وقادتني كألطفل . كنت اشعر بالوهن ولااجد القدرة على الممانعة .

قالت ونحن نخرج .- لااريد ان يرانا العم درويش ونحن نلعب . تعال من هنا سنسلك طريقا أخر ... اطلق خيطك الان .

دخلنا دهليزا طويلا مليئا بالرسوم التي تقشرت وضاعت ملامحها بفعل الرطوبة والاهمال .فلم اميز منها شيئا سوى سيقان جمال وصحراء وبضعة اشباح هاربين مسخت وجوههم من الرعب .

- من هولاء ؟

 كان انا الذي يجب ان اسألك من هولاء . انت الذي رسمتهم .

- لااتذكر ...

- كان العجوز عبد القدوس يحكي لك تاريخ الناصرة لترسمه . كنت تقضي معظم الليل معه تتحادثان , وفي النهار تحمل حقيبتك الحديدية وتخرج علب الوانك وترسم .... كنت مأخوذة بما تفعله .. اراقبك طيلة النهار وانت تعمل . احمل لك طعامك وامسح فرشك . لكنك كنت تعاملني كما لو كنت طفلة . ... لم اكن طفلة , كنت اتعمد الانحناء لاريك اثدائي . لاريك كم هما جميلان ويضرعان لقبلاتك .... لكنك لم تكن تدري , كنت  تميل لقمر الفاتنة الطاغية

 الجمال . تحدق بها وكأنك تريد التهامها .  قمر لاتعبأ بالرجال . فتنتها جعلتها ترفض طريق الفضة مهرا لها . رفضت (( نعمة الله )) الخطيب الاسطوري الذي امهرها بجبل فضة واربعة سحرة ومئات الجواري اللواتي تعبق  افواههن بالسنا المكي . لماذا يافنان الذكريات ؟ لماذا لم تكن تراني كما تراها ؟ حتى الوجوه التي كنت ترسمها تظهر عليها ملامح قمر . لماذا لم اكن انا ؟.

طوقت عنقي بذراعيها وجذبت رأسي .

- قبلني يافنان الذكريات .

شممت عطر الناردين يفوح من فمها . العطر ايقظ عطشي فارتشفته , غبت في ادغال عريشة الناردين . شربت من ينبوع الحياة الجميل . ابحث عن الحياة فيه وارد جريان الدم الى جسدي .

- سوف تقطع لساني يافنان الذكريات . ... هل قبلت أمرأة قبل هذا ؟

- لااتذكر ياست الحسن .

- قبلت قمر ؟

- لااتذكر ... لااتذكر .

-لااريدك ان تتذكر . سأذكرك بما اريده انا .

قادتني الى سوق متروك ممتلئ بروث الابقار والصوف والدكاكين الموصدة الابواب .

- انه سوق الناصرة . هنا كان الناس يبيعون ويشترون . وتلك الدكاكين كانت ممتلئة بكل مايحتاجونه ... انظر هناك .

أشارت الى دكان مغلق وعليه لافتة كبيرة (( فنان الذكريات )) .

- انه محل عملك . دكانك السحري .... كانت الناصرة تحتاجك بشدة . فنزلت عليهم من السماء ... رسمت لهم تأريخهم واحلامهم . رسمت كل شئ المنزل والمدينة والصحراء والسور وساعات الصفاء العجيبة . رسمت الابقار وقوافل التجار الهنود والزط وزنوج غانا وبلاد التكرور . رسمت (( تيبو تب ))التاجرالعماني وسيد غابات افريقيا بلا منازع الذي جاء من قلب الادغال الى الناصرة مع عبيده الذين يعبدونه دون الله ومات خلف سور الناصرة وعلى شفتيه اسم قمر .

قلت - من اين اتيت انا ؟

- سنفتح الدكان عساك تتذكر .

رفعت الباب الى اعلى فرأيت اللوحات الملونة التي توزعت على الجدران والارض .. الوجه المدور العنيف ذاته محاطا بالعبيد والخدم الذين كانوا يحملون اطنان العاج الى مدينة لم يثرها بياضه ونعومته التي تشبه افخاذ النساء . قافلة جمال تسير على سجاجيد اصفهانية ومحملة بسبائك فضة يقودها غلمان شراكسة , واربعة سحرة يحلقون في الفضاء . عرب واتراك يتقاتلون في الساحات والازقة والصحراء . فارس معمم ينظر الى الموتى بعيون مدهوشة . الفارس نفسه على ظهر سفينة تقطع بحر الظلمات . الوجه المدور العنيف في لحظة نشوة وعبيد عراة الاجساد في لحظة تعبد خالصة . وجه صبية خارقة الجمال بعينين ضاحكتين . البرقع الخفيف لم يضع ملامح الوجه الجميل . الخدان الورديان والشفاه الرطبة التي استرقت قبلة من الندى .

همست - قمر ....

قات - انها تشبه قمر كثيرا ,لكنها ليست قمر . .... ربما تكون معشوقة واحد من الفتيان الذين كانوا يأتون اليك لترسم لهم معشوقاتهم .

- وهل هناك كائن بمثل هذا الجمال ؟

- يبدو ان ذلك العاشق المسكين مات كمدا ... من يتحمل كل هذا الجمال . انها مزيج من قمر وعمى الحب . ليس هناك مخلوق يشبه هذه الصبية .

وجوه عديدة لصبايا جميلات رسمت بالزيت والفحم والحبر . رجال بكوفيات وشوارب غليظة , رجال دين بعمائم ضخمة , شعراء وحكواتية . جواد هائم يركض في الفراغ وقد انبثق  من بين الآف الخيوط المقطعة... وقفت طويلا اتأمل ذلك الجواد الجميل الذي افلت على حين غرة وضاع بين الالوان وخيوط الحرير .

قلت - ياللجمال !

- انها الحكاية القديمة التي كانوا يخيفون بها الاطفال حتى لايبتعدوا عن غرفهم , حتى لاينسوا خيوط الحرير  . كما فعلت معك , خوفا من ان تذهب ابعد مما يجب ويتحول جسدك المسكين الى جواد هائم دائم الصهيل ...

ثم اخذت علبة الوان وفرش وقالت .

- سترسمني الليلة يافنان الذكريات . سترسمني لترى كم انا جميلة وشهية . سترسمني حتى لاتنساني غدا .

- سأفعل .... سأفعل .

خرجنا من الدكان وولجنا بابا مواربا قادنا الى الدرب الضيق ثم الى باب حديد مطرقته على شكل زهرة اريانت . قالت .

- انها دفيئة عبد القدوس وسر وجوده وعمره الطويل . لااحد في المدينة اوفي العالم يعرف هذا المكان سواي وقمر . انه سر الاسرار ياحبيبي .

فتحت الباب الحديدي الذي قادنا الى فضاء واسع ومزرعة اعشاب وزهور .

قالت - انه حقل (( السنا والسنوت )) . حلم امهر العشابين في هذا الكون . سرهم الذي تداولوه بالشفاه ولم يدونوه بالكتب . الاسرار العظيمة لاتجدها بالكتب انها درس شفاهي يلقنه العارف لأنجب تلاميذه . عبد القدوس آخر العشابين الاحياء وانجبهم . امتلك سر النبتة التي تقوم الجسد سر النتبة التي تحييه .

انظر الى كل هذه الزهور الجميلة . كم هي خيرة وبريئة . لكنك لو عرفت اسرارها لما اهديتها لمن تحب . ولو عرفت كل اسرارها لما اصاب جسدك العطب . ولما ادركك الموت . السنا والسنوت هو قانون العشاب . قانون (( كمى ويكمي )) فصل من كتاب (( الضيم )) الذي تفرق على الشفاه , واستقر اخطر فصوله في قلب عبد القدوس . ثم قمر ثم انا ست الحسن التي استلبتك من براثن الموت .

ناولتني قبضة من اعشاب طرية فمضغتها .

- انه (( الحمحم )) . ماذا يقول الحمحم . ثم ضحكت بعذوبة . يقول انا الحمحم اجلب دائما الشجاعة . كل ياحبيبي  , ماتريده هو الشجاعة لتواصل طريق الحياة ثانية .

اطلقتني في الحقل الغامض ارعى كالخروف والتهم اوراق الزهور الطرية وهي تعدد لي فوائدها واسرارها .

- الخشخاش لالتهاب الامعاء . الحلبة لازالة تجاعيد الوجه . النعناع المر لعلاج القروح . عشبة الفنكا للدم . الدمسيسة للكلية . اللبان الذكر , تين الفيل , بيض السعد , السنبل والهدال . الكندس والصقنقور حب الزلم ورق الغار والهوى الجواني . كلها مجتمعة فأنها ستمنحك القدرة على صفاء العينين ومقاومة العمى .

شرش الزلوع للفحولة ومعركة السرير . السنامكة والراوند والكركدية لاعادة الدم الى وجنتيك . الحبهان للشرايين . خذ من الدفلى ورقة واحدة وامزجها بلعابك مع الحبق , انها سمية اشد من الافعى لكن الحبق يلطفها ويجعلها مضادة للكرب .

كل من زهرة مر المجوس والميرمية فانها ستمنحك القدرة على الانجاب .

تعال هنا ارعى في حقل الداتورة والخرشوف .

جسدك الان مهيأ للجهنمية نبتة الشيطان (( الاريانت )) طريقك للحياة . كل منها حتى تشبع ويجف حلقك وتعال الي لاسقيك .

كل يافنان الذكريات سيصعد الدم الى رأسك وتتورد وجنتاك . كل منها وسيدب النشاط بجسدك النحيل وستتوقد ذاكرتك ويعود الدفء لاطرافك ... سنعيش سوية ونتزوج وننجب اطفالا نعلمهم كل حيل المنزل وسوف لن تندم .

ناولتني الزهرة الغامضة فمضغتها . مذاق مر وكريه . جاهدت بابتلاعها فتطايرت الدموع من عيني . فأشرق وجهها بابتسامة عذبة ووضعت رأسي على صدرها . شعرت بحرارة نهديها وخفقات قلبها فدبت الحياة بجسدي .

- قبلهما يافنان الذكريات . اريني انك تشتهيهما كما الطفل ... لاعبهما ياحبيبي فهما بيتك وملاذك وتوأم متعتك . ارضعهما . دع حلمتاي تتوسلان فمك كالعصفورين . دع توأماي

يرقصان على لسانك وشفتيك فهما يتوقان اليك ويرغبان برعشة يديك .

غمرت رأسي بين نهديها , شممتهما , شممت رائحة الناردين الطازج على حلمتيها . التهمتهما التهمت ينبوع الحياة . رضعت منهما شهد خطوتي الاولى الى عالم الاحياء .

- انتظرتك طويلا ياحبيبي حتى تعود ... انت ملكي ... انا الذي استلبك من الموت . غمرتك بالاريانت وعطرتك بمر المجوس ... سهرت على جسدك حتى لايتفسخ وسقيتك الناردين من اصابعي . انت صنيعتي واحلامك هي احلامي ... اشرب ياصقري الجميل . فالرحلة انتهت ولن تتعذب اكثر مما تعذبت .

كان الظلام قد حل فعدنا الى غرفتها حيث السماء والفضاء الواسع الملئ بالرسوم وكأنه الجنة .

اشعلت شموعا مضمخة بالعطر فتوهج المكان واختلطت الاضواء بالغزلان والطيور . فتحت شعرها ونثرته على كتفيهافبدت كساحرة خارقة الجمال والقوة . تعرت وكشفت جسدها الجميل الذي سرق نار الشموع ودفئها فاصبح ذهبيا مشعا كانه قادم من ذلك المكان البعيد الذي يلون الجدار.

- أرسمني يافنان الذكريات .

كنت اسمع عواء الريح في الخارج وكنت اشعر بحفيف عباءة تجوب المنزل .

 

  ارسل هذه الصفحة الى صديق

اغلاق الصفحة