((  الحسين بن علي ))

  حسن ناصر

(( نوري كه هر كز خاموش نميشود ))

 

سماء صافية ، ضحى آذاري كان الصمت فيه متماسكاً رغم عواءات القصف ونهشها

من أستوائه .

اندحار المدينةيتم  بصمت لايتوافق وذروة الهياج  .

 تقدمت قوات الحرس الجمهوري العراقي في الثالث عشر من آذار 1991 ، مثل تماسيح تحاصر الجسد الغارق في بركة من الدمار ابتدأت بالقصف الأمريكي ، وأستمرت مع رصاصات الأنتفاضة وهاهي تشهد ذروتها منظوراً اليها من فتحات التهديف في الأسلحة المزمجرة المتقدمة الآن . على الجسر الفاصل بين جنود مدهوشين من لامعقولية الأمر بسحق عراقيين آخرين ، وبين الجهة الأخرى حيث تهرع العوائل باتجاه البساتين مذهولة من شدة الهلع . على الجسر كان الملا حسين واقفاً ، يسمع ، متصاعداً من اعماقه ، صوت المقتل الحسيني يصدح في سماء الحداد .

أعوام طويلة مضت منذ اختاروه ليمثل في  التشابيه ·  دور الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين  . اختاروه بسبب عينه الوحيدة ،كان هناك فراغ مخيف تركه اختفاء عينه  الأخرى  ، وربما لقسوة ملامحه . الحّوا عليه أن يمثل دور القاتل ، لم ينتبهوا الى جذوة تقواه ، لم يلتفتوا الى روحه الطيبة وخجله وأحزانه  ،  دفعوه الى الساحة ليقاتل ويقتل الحسين ، هو الذي يذوب فيه حباً ويفنى أمام شموخه . صرخ وهم  يحاولون أقناعه بأن يكون الرجل الذي يذبح سيد الشهداء : أنتم مجانين .. شياطين ..

فرَ الى منزله يكاد أن يبكي من الأذلال المتعمد لتقواه ، لبراءته ، لولائه المطلق لأهل البيت .

-       أهل البيت مجمع الآلهة بترتبهم الهائل المتسق وتماهيهم مع  المجاهيل ، الذين يجعلون من الكون بيتاً . مآسيهم المثال الأكمل لمآسينا العابرة ، ونكبتهم هي النكبة الكبرى التي تتضمن نكباتنا اليومية بالغة الصغر .

-        مع هذا لماذا لاتفكر بالأمر؟

 قال الملاّ  غني قاريء المقتل والرجل الذي أضاف هوامش رائعة على القراءات المعروفة .

-       أجرك مضمون في ذلك .

-       حتى أنت يا ملا غني . انت تعرف مدى حبي ..

لم يترك له الملا فرصة أكمال مايريد توضيحه . ألحّ عليه أن يقبل وينهي الأمر .

أراد  الملا غني الأنتهاء من الأمر  فعلاً ، لأن عدم وجود الشمر في المأساة يعني تأجيل العرض الذي يعد له خياله ورحه مؤديا دور الحسين . اللحظة التي يصل فيها اعلى درجات تماهيه وتحوله الى أداة لعبور مأساة كبرى ولحظة كونية حمراء ، متوهجة .

-       أكره هذا .. هل تفهمون !!

-       ومن قال لك أن ألعطار ، الرجل المؤمن ، التقي يحب أن يؤدي دور حرملة !! أنه يفعلها من أجل حب الحسين !

-       هل أن يعقل أن يكون هناك أجر في قتل الحسين !

-       أجر في حبه ، وأنت محب تريد توضيح مآسيه للناس .. ها ؟

-       أنا .. الشمر!!!

-       أنت محب أبي عبد الله أولاً

-       فيها أجر؟

-       أجرك مضمون ، خليها برقبتي التي ستحزها غد اً

-       ما أمثل الشمر لو يجي القبيس !

 

ظهر الشمر مرتبكاً في اليوم التالي ، لم يكن يخفي على أصغر المحتشدين سناً ان  الشمر كان مثيراً للشفقة ، محتاراً أمام الكلام الضخم الذي يتفوه به ملا غني الذائب  في دوره تنتفخ أوداجه ، وعيناه محمرتان. عينا محارب بلا نصير .  في ذلك الحر الشديد مذلاً في ملابس لماعة ملونة مثل التي  يلبسها الغجر في سهراتهم . أمام صفوف لا متناهية من نساء واطفال ورجال بملابس الحداد  يلطمون بألم . وقف الشمر بن ذي الجوشن  متلعثماً يغص بالكلمات ومتمتما بالأستغفار بين كلمة وأخرى .

كان الملا غني حكيماً ، يحسد على قوة أعصابه وأحتماله الصمود  وعدم الضحك أمام أرتباك الشمر وهفواته  .

-       مع هذا كانت الناس تغص بالضحك وتمثل البكاء أقسم بأبي عبد الله .

-        أسكت .. حرام ياولدي .. حرام

 

حمّلوه الخطأ ، نتائج الفضيحة التي كادت أن تقلب كل شيء رأسا على عقب

 

-       كان النهار سينتهي بالضحك

-       أبن الحرام .. قلت لك أسكت . والله يا أخي خجلتنا فعلاً

-       يا رجل مجرد كلمتين .. ولم تقدر عليهما ..

-       كنت تجلس على صدر الحسين سلام الله عليه مرتجفاً وكأنه هو الذي يريد نحرك!!

-       كفى لعنة الله عليك .. قلنا كفى .

ساروا يكتمون ضحكاتهم وراء الملا غني وحسين بن علي الذي يريد التخلص من ملابس الشمر . حمل الخوذة  والسيف الأثيم ، الدرع ذا  الزخرف الشيطاني ،يثقل كاهله  ولايريد الأنشغال بحملها ولو حتى لصلاة العشاء :

 الى من أعطي هذه الملابس؟

يهمس الملا غني بخيبة مريرة :

-       شفت أخي كلمتين وما دبرتها .. شفت صرنا حديثا للسفهاء !

-       ملا الى من أعطي ملابس الشمر؟

لم يرد عليه الملا غني . أكتفى بأن رمقه بنظرة لوم وأستمر وكأنه لم يسمع . الملابس ثقيلة ,ابقاؤها في البيت لليلة أخرى لايقل مشقة عن ذبح الحسين .

المدينة الصغيرة تمتد بلا ترتيتب في الجهات حول النهر بفروعه وجداوله وأهواره . الجسر اليوغسلافي ، بناه الضخام القادمون بصحبة حادلاتهم ومؤنة فيلق  من بيرة  بلادهم .

يهتز الجسر  كأنه وحش ضخم . يقف الحسين بن علي على حدبته بلا معين. غادره الآخرون بعد أصراره على أن أن يكون آخر ضحية لجيش غائب الملامح .. مطالب بتقديم جثث المتمردين  لسلطته العليا .

الملا غني في دكانه اللامع يببيع الجبن , المروحة السقفية تحمل زخرف من الألون

وعلى الحائط صورة كبيرة للحسين تحتها بخط التعليق الساحر:

نوري كه هر كز خاموش نمي شوّد

 كان غني مشغولاً بزبائن الصباح وتحيتهم وتبادل الأسئلة التقليدية معهم . رأى يديه السمينتين تخوضان في قناني الجبن , بالأمس كان يبدو سماوي الملامح . تفيض القدسية من وجهه  وثيابه . وهاهو اليوم لايقل جمالاً ، اليدين المغمورتين في بحيرات شفافة ، قاعها صخور صغيرة من الجبن . تبدو أكثر حيوية  من يدين تحملان شهادة صارمة . لم يحتمل حياءه أمام لامبالاة الملا غني وأنشغاله بأمره . نهض واقفا متألماً ليقول غير عابيء بمن يسمعه :

_ لا أرغب حتى في رؤية الحسين يبيع الجبن في السوق!

- عما تتكلم ياحسين .. هل ضربت على رأسك .. أفق .. يا سبحان الله . أنا ملا غني

أم تراك بدأت تصدق أنني الحسين .. ! ها ؟

ترك ملابس الشمر بن ذي الجوشن على الكرسي في دكان الملا غني ..وغاب لكنه ظهر ليقف أمام الملا قبل أسبوع واحد فقط من محرم التالي قائلا بأنكسار :

-       ملا لامانع لدي من القيام بدور الشمر هذا العام أيضاً .

حاول أن يبدو صارما ، بشعا في الساحة أمام الناس وهو يخاطب الحسين داعيا الى قتله .

تنكر في ملابس القاتل لمجرد أن يشهد وجه الضحية ،يرى  أشراقة الحسين في عيني بائع الجبن . وبرغم كل محاولاته اشاع أنطباعا مهلكاً آخر سينتبه الملا أليه .. كان الشمر يبدو مجبراً .. مسكينا ينفذ أمرا في خضم  صراع السادة . ..

_ ملا غني شمرك هذا يريد أن يغير التاريخ الذي  نعرفه .. عمتي كانت متعاطفة معه ظلت تردد طوال الليل : خطية .. هو الشمر أش بيده ... هم مأمور !

_ هذا الأمر يحتاج خبرة .. والعام القادم سيكون ملا حسين افضل بالتأكيد  .. أخشى من أن يصدقها  ويقتلني .

 

هل هو الحسين وحيدا ..يتلفت على الجسر حيث لافوز يتبقّى لتقي مهزوم سوى الموت؟؟

 أن يختار موته .. تحكمون الأرض .. خذوها لكنكم  لن تحكموا أمري .

أنا قادر على أن اموت !

أن أتحرر من أرضكم هذه !!

هل هذا ما رآه الحسين ..هو ما تراه أنت  الآن .. أرض تتخلى عنك .

القنابل تهز الجسر والحرس الجمهوري يتقدم ..

كان يحب المشهد الذي يصعد فيه على جسد الحسين ليذبحه ..، يحب ذلك المشهد لأنه يمنحه فرصة نادرة للتماس مع الحسين .. للمسه .. لرفع رأسه .. لتلمس ثيابه ودمائه .. يرتفع العزاء في تلك اللحظة من أعماقه وتنطلق تبجيلات علوية للشهيد النائم بين يديه

لم يكن مثل هذا التقارب متاحاً لغيره . لا أحد منهم راى الحسين في عيني بائع الجبن ، رأى مثاله الكامل وسمع أنفاسه وشم رائحة عرقه،  مثلما فعل . لحظة تحدث كل عام لكنه كان يعيش من أجلها . يقضي السنة متأملا تفاصيلها .

منعت التشابيه منذ أعوام . والملا حسين أنقطع الى الصلاة والعبادة . غابت قسوة ملامحه وشاخ وجهه حتى أختفت حدة الفراغ المخيف لغياب عينه .. مهدّل الثياب ، عقاله يتدلى على صدره .. يلهث منتظراً وصول الحشرات الحديدية الضخمة بمواسيرها المنتصبة .. يرى وحشاً من النيران يعتلي صدره .. كان هو الحسين هذه المرة وكما لم يقدر له أن يكون امام الناس في ساحة التشابيه . من شوارع المدينة المقفرة يرتفع صدى عزاءات سالفة :

جابر يا جابر ما دريت بكربلا ايشصار

 

صمت رصين يفصل  بين الأنفجارات ، ذهبت العائلة وتوارى الرفاق .. البندقية التي في يده تطلق رصاصا خائرا كأنها تنفخ في وجه عاصفة .

أخترق الرصاص جسده ، كانت السهام تلقي التحية على الحسين أولاً :

السلام عليك يا أبا عبد الله

يدخل الرصاص لاسعاً ، بعوض يغوص في لحمه . تسقط البندقية من يده يفتح ذراعيه وكأنه يحمل طفلاً قتيلا ، يضع كفه ليجمع الدم ويرميه الى السماء .

سمع ضحكات الجنود تقترب .. كانوا يتحدثون كأنهم في الطريق الى مقهى .



·     طقس شيعي في جنوب العراق يسعى فيه ابناء المحلات والقرى الى تجسيد مسرحي لمأساة الحسين بن علي بن أبي طالب  طقس هائل للذين يتذكرونه منا .

 

  ارسل هذه الصفحة الى صديق

اغلاق الصفحة