الفا الفا    رياض كاظم

ألى اخوة مدارات

 

- الماضي والخيال اذا ... من هناك نأتي بالاساطير المريحة .

قالها وهو يحدق بوجوهنا الصارمة . كنا نفترش ارض الحديقة في واحد من مساءآت نيويورك الهادئة والمظلمة , الظلمة كانت تبعث في ارواحنا الهدوء وتجعلنا نشعر ببعض الحرية وتجنبنا النظر في عينيه الثاقبتين , فامام حياة ذلك الرجل بدت تجاربنا وذكرياتنا التي كنا نتبارى في تزويقها وتضخيمها مجرد حكايات تعوزها الجاذبية .

- وماذا يمتلك المغتربون امثالنا سوى الماضي .

قالها بسخرية وتوهج وجهه بفعل عود الثقاب الذي اشعل به سيجارته .

ثم اكمل .

- ما عدت ادري هل كان الماضي جميلا حقا كما اراه الان , أو انه مجرد غرفة تحوي كل ما أحتاجه وأدخلها متى شعرت باني غريب ووحيد .

كان صوته العميق والهادئ يجبرنا على الصمت .

- لست أدري ان كان ما حدث قد حدث فعلا , أو أني توهمت كل ذلك .

هز الرجل العجوز رأسه وابتسم بخفوت .

- أريد ان اسمع رأيكم بهذه الحكاية . هل حدثت لي فعلا ؟ . أم ان أوهامي واتعاب الغربة صورتها لي .

لم ينبس احد منا بشئ .... اراح عقيل ظهره على جذع شجرة وأحتضن ركبتيه وقد تلبسه فضول عجيب , وأستلقى صادق على العشب ينظر الى السماء .

- كانت ليلة مظلمة كهذه الليلة ... كنت في التاسعة عشر من عمري . ياللفتوة والشباب . حينما نكون في ذلك العمر لانقدره حق قدره . انه هبة من السماء يا أصدقائي .. حيوية وطاقة هائلة لم اكن اعرف ما أفعل بها سوى ان انطلق من المنزل الى الخارج في جولات طويلة لاتنتهي .. جواب آفاق كما احب ان اشبه نفسي . أمشي الى حيث لاهدف وربما قادتني قدماي الى شارع غامض تجهله بوصلتي , فادخله وكأني اكتشف أرضا مجهولة , حتى اصبحت المدينة بالنسبة لي أشبه بكتاب مفتوح اعرف كل فصوله ورموزه , عرفت فيها كل نقطة وبيت وزقاق , كما أني عرفت كل ناسها ... نعم كل ناسها .. لم تكن صورة أحد تفلت مني حتى صور نسائها الجميلات والمصونات . سيدات المدينة المحتشمات .

لكن ما حدث في تلك الليلة المظلمة أربك في حاسة التعرف على الاشخاص .

قال صادق - كانت أمرأة .. دوما هناك أمرأة تأتي لتربك حواسنا .

- ليس بالضبط يا صديقي ...

أفترت شفتا عقيل عن أبتسامة ماكرة . اراد ان يقول شيئا لكن الرجل أوقفه باشارة من يده .

- لم تكن أمرأة .. لو كانت أمرأة من عالمنا هذا لما بقي خيالها يطاردني كل هذه الاعوام ... كانت كائنا آخر .. يا ألهي الرحيم , لولا تلك الظلمة الحالكة لاستطعت ان ارى وجه الكائن الخارق العذوبة وارحت قلبي من كل هذا العذاب .

أشعل لفافة اخرى بيدين مرتعشتين .

- كائنا لايمت بصلة الى عالمنا هذا وكأنها هبطت من السماء لتلتقي بي في تلك الليلة ... وجدت نفسي أمامها فجأة ولايفصل ما بيننا سوى بضع سنتيمترات , ودون ان نفكر للحظة واحدة هجمنا على بعضنا , وجدت ذلك الكائن المدهش بين ذراعي يتلوى من الحب ... لابد وان يكون هناك من صنع هذا اللقاء . أذ ليس من المعقول ان تحدث مصادفة كهذه في عالم شديد الصرامة كعالمنا هذا .

لم نجد متسعا من الوقت لنسأل بعضنا , كنا نريد أن نشبع نهم جسدينا الفتيين . لانه كان لقاء جسدين يبحثان عن بعضهما منذ دهور . الجسدان قررا ان يلتقيا في تلك الليلة ويمارسا الحب في الشارع دون أن يتبادلا كلمة واحدة . وما نفع الكلمات في تلك الليلة يا اصدقائي . مانفع أن اسألها عن أسمها وشفتاي لاتريدان ان تغادرا شفتيها .. كلا لم تكن أمرأة من عالمنا هذا ... حتى عندما غادرتني لم تترك عبق جسدها وشعرها وابطيها على جسدي , لم تترك شيئا غير كلمة واحدة خطتها على صدري بلسانها (( ألفا ألفا )) .

توقف الرجل عن الحديث وهو يلهث .

- الفا الفا ...

ثم رفع قميصه الى اعلى وكشف عن الكلمة المحفورة على صدره.

- الفا الفا .. قلنا بصوت واحد !

- نعم يا اصدقائي ... ليس غير هذه الكلمة التي رافقتني طيلة حياتي ولا أجد سبيلا لمحوها من على صدري , وكما أظن أني لن أستطيع ألا أذا التقيتها ثانية .

نهض الرجل من مكانه ومشى خطوات قليلة فأبتلعته الظلمة .

بعد مغادرته لم يجد أي منا الرغبة في الكلام , فعدنا الى منازلنا نحلم بألفا الفا .

 

شيكاغو

2002  

  ارسل هذه الصفحة الى صديق

اغلاق الصفحة