عن الكثرة في الجسد الواحد - احمد عبد الحسين

بالواحد تجتمع الأشياء وبه تتفرق

إبن عربي

 

حين يتناقض شخص ما في أقواله يشار الى اختلاف أقواله بوصفه خللاً يطعن في الصميم جهده الذي يطرح من خلاله قوله، إذ يُطلب على الدوام من الفرد أن يؤسس حقيقته أمامنا بناء على نبذ كل تعارض ممكن واستبعاده نهائياً، لكن ماذا لو كان التناقض هو مصير الفرد ؟ ماذا لو كان ما يتناقض في الإنسان هو الإنسان ذاته، ولا وجود لإنسانيته إلا متناقضة؟

كلما كان في ثنايا نص ما وحدات قولية تتعارض مع بعضها كلما كان ذلك مدعاة للطعن في أهليته لقول حقيقته ، مدعاة لعدم تصديقه أو عدم حمل ما يقوله محمل الجد، فنحن نأمر النص، أياً كان ، أن يقول حقيقته بلسان واحد، لكي نقرأه بإعتباره نصاً واحداً

لكن أتكون قراءة كهذه هي المنفتح الوحيد المتاح لنا في مواجهتنا للنص؟

 بعبارة أخرى ، هل هذه القراءة التي تفترض النص سطحاً واحداً منبسطاً، هي القراءة، بالألف واللام،ام انها  قراءة تستوعب نصوصاً معينة دون غيرها؟

وماذا لو كان النص يرفض ان يتكلم الا بلسانين مختلفين ، ماذا لو كانت الكتابة تعلن عن قول ما وتهدم هذا القول في آن، تؤسس لما تقوله ولما يناقضه بحيث ان النص ينفتح باستمرار على أقاويل يقف كل منها بإزاء الآخر مضاداً له  ومناقضاً إياه كأنه مبتن ٍ في عمقه بالتناقض وتشتت الأقوال

النص الذي يمكن تصوره جسداً واحداً، وحدة واحدة، انما يستبطن في أعماقه ألسنةً عديدة تكثره وتجعله قابلاً للقراءة وإعادة القراءة كل حين

وتكثر الأقوال داخل النص يعني تكثر الحقائق المقالة فيه بحيث يمكن القول ان حقيقة النص انما تقوم علي وحدات تتآلف ، وما النص الواحد الا نص مؤلَف، ربما من هنا جاء اسم المؤلِف، كاتب النص ، إذ التأليف هو جمع وحدات لم يكن بينها سابق لقاء من قبل ، جاء في القرآن ، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم

فالمؤلف، جامع التناقضات، يمارس في فعله الكتابي عملية اقرب ما تكون لتصفية الحساب ، انه يجهد في تحويل النص الى وحدة من خلال عدم قول اي تناقض محتمل في كتابته ، أما مادة التنافر والتضاد وتناسل الالسنة وتباينها فينبغي ان يصار لتوحيدها جميعاً بغية إنشاء لسان خاص بالمادة الكتابية من شأنه أن يكون هو اللسان الوحيد الذي يقول الكتابة اخيراً

استبعاد الاختلاف والتمايز من خلال جمع الاقاويل و تأليفها هو ما يجعل للنص هوية واحدة ، إذ يتم تغييب الهويات الكثيرة المتحركة في فضاء الكتابة لصالح ما أُلف وما يراد له أن يكون جسداً وا حداً ، كأنما مهمة المؤلف تتحدد في تجميع الكل على أمر سواء ، واستدعاء الكثير المختلف لنقطة تلاقٍ ، وتغدو إذاك نقطة الالتقاء هي الصوت الوحيد في مجمل المكتوب ، ويغدو هذا الأمر السواء الذي اجتمعت عليه الحقائق المتباينة هو القول الوحيد ، هو مايصل الي أخيراً ،أنا القارئ، ويغدو النص متماسكاً وبالتالي مقروءاً

وإذن فالتأليف، والحالة هذه ، إثبات ونفي، تسطير ومحو، استدعاء واستبعاد، بقدر ما يقول الكاتب أناه داخل نصه بقدر ما يفتح في النص ذاته ثغوراً لدخول سواه،

النص يحمل في بنائه، الفجوات التي تجعل هويته المحضة مستحيلة

هنا يأتي القارئ الذي يماثل دوره دور المؤلف في الإغماض عن تناقض يبسط ظله علي مساحة النص بكامله ليساهم في توحيده، فهو ، القارئ ، مدفوعاً برغبته في استبعاد اي اثر للاختلاف ، الذي يعني لديه الإختلال، ومتواطئاً مع المؤلف، يجعل الحقائق المتعددة مندكة جميعها في حقيقة واحدة ، قول واحد يؤول في النهاية  لأن يكون هوية النص الواحد

من هنا تطابق فعلي القراءة والكتابة اذ كلاهما تأليف أقوال شتي في جسد واحد، غير اننا وكما اسلفنا لا يمكن ان ننظر لقراءة كهذه بوصفها القراءة الوحيدة المتاحة ، ذلك ان قراءة ثانية تتناغم مع تعدد مستويات القول في الكتابة من شأنها ان تمسك بهوية النص متلبسة بغيرية يفرضها عليها تباين الالسنة التي يشتمل عليها النص

قراءة كهذه تنظر في النص بوصفه نقطة تجتمع بها الاشياء وبها تفترق، كأن واحدية النص الواحد تستلزم تكثيره من الداخل ، انها قراءة تفهم الجسد الكتابي كمحل سكن لحقائق متباينة

وهكذا تغدو الكثرة قدر الواحد ومصيره ، والتعدد مآل كل هوية، وما الكتابة عن الغير إلا استدعاء له للمشاركة في صنع الذات ، وما استكشاف الآخر الا الوجه الثاني لإستكشاف الأنا

حينها لا يغدو التناقض في القول خللاً داعياً للتشكيك بالقول والقائل، مادامت الكثرة والتزاحم هما مدار الهوية والاسم الذي أحمله

فحين يقول ابن عربي لقد صار قلبي قابلاً كل صورة، أو يقول أنا لا أنا

ويتبعه رامبو بقوله  الأنا واحد آخر

وحين يقول أدونيس أنا أكثر من شخص

ويقول اكتافيو باث لكي أكون ينبغي أن أكون آخر

فإن هذه الأقوال لا تكشف عن ضياع الأنا وانطماسها بقدر ما تؤشر لحلول الكثرة في الجسد الواحد، وحضور الآخر في داخلي

انها تبوح بحقيقة أن كل قول أقوله إنما أقوله بلسانين اثنين ،

الأول لساني

الثاني لسان الآخر الذي يسكنني

 

  ارسل هذه الصفحة الى صديق

اغلاق الصفحة