متاهات خورخي لويس بورخس - خالده حامد

إن ترجمة النثر السردي أسهل بكثير من ترجمة الشعر ، ألا أن هذه الحال تصبح معكوسة عندما نحاول الاقتراب من أعمال بورخيس ، إذ يثير نثره صعوبات لا تشابه تلك التي نجدها عند ترجمة الشعر وهذا مرده انثيالاته الإبداعية المتتالية وبراعته الفائقة التي يصعب مجاراتها. فقد أكد كتاب شهيرون، أمثال جورج مور وفلاديمير نابوكوف ضرورة أن يشعر القارئ انه يقرأ ترجمة العمل الأصلي لا العمل الأصلي نفسه . وما دامت لغة بورخيس تفتقر إلى "السلاسة " في لغتها الأصل ، ليس ثمة سبب يدعو إلى استحضار هذه السلاسة عند الترجمة . ومثلما سنبين لاحقا ، فان بورخيس يرى ان أسلوبه لا يعدو أن يكون محض ترجمة لأساليب غيره من الذين سبقوه . ولعل أدق ما يمكن أن يقال عن نثره أنه يعد تعديلا حديثاً للأسلوب الباروكي اللاتيني ، إذ تلحظ في أعماله ميلا واضحا نحو ما اسماه بلاغيُّو القرنين السابع عشر والثامن عشر  بالكلمات " الفلسفية أو الصعبة"، على نحو يستعيد فيه معانيها الجذرية محاطة بمسحة استعارية حديثة . وعلى غرار ما نجده في قصيدة اليوت الشهيرة " الأرض اليباب"، عمد بورخيس إلى إدخال اقتباسات كثيرة في نسيجة أعماله .

ولابد من الإشارة إلى أن بورخيس ولد في آب 1899 ، ويؤكد النقاد أن من غير الممكن أن تجد مثيلا له أو الموقف المحيط به عند أي كاتب آخر من كتاب أمريكا الشمالية من أبناء جيله الذين قاسوا آلام الحرب والتصنيع والفن الأدبي الحديث . إلا انه في رحم هذه الظروف الصعبة خلق بورخيس لنفسه عملا مميزا لا يشاطره فيه أحد. وربما كان ما يسم كتاباته هو رد فعلها الفكري الطاغي على أشكال الفوضى والاضطراب كلها  التي تكتنف الواقع ، وكذلك إصرارها الجذري على انتهاك عالم معطى وافتراض عالم آخر .

ويُعد بورخيس شاهداً حاذقاً على أزمة الحضارة العامة لأنه ولد في خضم العصر الذي كان يشهد التحولات ، وعند تخوم الحضارة الغربية. ولهذا تجده استعمل موهبته الفذة ـ موهبة الصوفي الميتافيزيقية .. موهبة مُنظِّر الأدب الخالص ـ أشبه ببراعة الشاعر المبدع ادغار آلن بو أو فاليري ، مدفوعا برغبة لخلق نظام جديد بأداة يمكن ان نصفها بما قاله الشاعر الشهير ييتس : " من أعلام الذهن المتوقد " . كما يمكن لنا القول انه من الشكوكيين القلائل الذين يتحدثون عن العتمة المطلقة للأفكار المحضة والأدب المحض الا انه سعى إلى تحويل هذه الشكوكية إلى أسلوب ساخر وإثارة الشكوك حول النظام الجمالي ؛ إذ أنه لا يهتم بالأفكار ذاتها ، بل بوقعها وإيحاءاتها ودراما احتمالاتها واستحالاتها والصمت المطبق الذي يكتنفها في صميم تناقضاتها .

وحتى عام 1930 ، كان الشعر موهبة بورخيس الإبداعية الرئيسة : فقد برع في الشعر الحر بقصائد أثارت اهتماما كبيرا آنذاك ، أما السنوات التي أعقبت 1930 ، فقد جلبت معها تغييرا جذرياً في عمل بورخيس إذ هجر الشعر وانصرف إلى كتابة القصص القصيرة التي تعنى بعمليات السعي التي تقود إلى الاكتشاف والبصيرة ، والتي تتحقق تدريجيا وبشكل مفاجئ أحيانا، لكن ذلك يكون دائما ذا تأثير ساحق ، ويجعل من الواقع الخفي يتجلى في أعماله . ومثلما هو عليه الحال مع المؤلف البارع تشيسترتون الذي جعل قصصه مادة لولائه الكاثوليكي ، استعمل بورخيس عنصريّ الغموض والمفاجأة في الأدب لتحقيق الدهشة المقدسة في الكون .

        وقد ذكر بورخيس مرة ان ثمة أربع وسائل أساسية للأدب الخيالي  : 1ـ العمل داخل العمل 2ـ تشرب الواقع بالحلم 3ـ الرحلة عبر الزمن 4ـ الازدواجية . وتُعد هذه العناصر المغزيات الرئيسة في أعماله ، فهو يتناول الطابع الإشكالي الذي يسم الطبيعة والمعرفة والزمن والذات الإنسانية . ويتلاشى عند بورخيس الفرق المعتاد بين الشكل والمضمون ، الذي أشبه ما يكون بالفرق بين عالم الأدب وعالم القارئ . فنحن عندما نقرأ له، نجد أنفسنا مقحمين في عالم يزدحم بالحقيقة والخيال ، الواقعي واللاواقعي ، الكل والجزء ، الأطول والأقصر ، على نحو تصبح فيه هذه العناصر جانبا لعالمٍ واحد .. عالمٌ يكون فيه الإنسان الواحد نموذجا للبشر كلهم .. عالمٌ  " يكون فيه البشر الذين يرددون بيتاً قاله شكسبير شكسبيراً نفسه" . فالعالم صار الكتاب ، والكتاب صار العالم ، وكلاهما محض متاهة ودهاليز مغلقة يُطلب من الإنسان فك مغاليقها وولوج مجاهلها . وعلينا ان نلحظ ان هذه الوحدة الفكرية المتكاملة لا تتحقق الا من خلال المواجهة الحادة والفاضحة بين الأضداد .

وقد ساد شعور بأن بورخيس أبرز كاتب في عصرنا الراهن . فقد حاز عام 1961 على جائزة فورمنتر  Formentor  مناصفة مع صاموئيل بيكيت . وربما أفضل ما نقوله في هذا الصدد ما ذكره رينيه ايميل ومارسيل بريون من انهما وجدا في بورخيس كمال الروح الروائية ، وفي عمله تعبيرا مذهلا عن الأدب الغربي الذي تناول معاناة الإنسان الحديث في الزمان والمكان .. في المطلق. كما نجد في أعماله ولعا شديدا بفكرة "العَود الأبدي " عند نيتشه ، أي الفكرة التي تقول بتكرار تاريخ العالم مرة بعد مرة إلى مالا نهاية ، فكرة الحلم داخل الحلم ، فكرة القرون التي تبدو لحظات من الزمن، ولحظاتٍ من الزمن تبدو سنيناً . ونرى في قصصه مرايا فكره ومتاهاته العميقة المحملة بالأسرار ، فضلا عن إنها تزدحم بشوارع تتقاطع فيما بينها  ، وممرات تؤدي إلى لا مكان . وهو يقول ان هذه محض صورة لما يجري في فكر الإنسان الذي يسترشد بالعلل والنتائج للوصول إلى مرامه . كما إننا حينما نقرأ بورخيس نستحضر في أذهاننا براعة جوناثان سويفت بعمق تخيلاته ودقة تفصيلاته ، بل ربما نجده أحيانا يذكرنا بروعة الروائي الفرنسي الشهير فلوبير . ومهما قيل عن التشابهات التي تجمع بين بورخيس وغيره من مشاهير الأدب ، تبقى حقيقة أصالته ساطعة لا لبس فيها ، بل هي ما يسلط الضوء على عبقريته وفنه… عبقريته الفكرية المتجلية في مهارته روائياً ، وسحره في تحقيق أقوى التأثيرات بأقل الوسائل المتاحة .

        قد تبدو قصص بورخيس محض ألعاب شكلية ، أو تجارب رياضية خالية من أي إحساس بالمسؤولية الإنسانية ولا تمت بصلة حتى إلى حياته الشخصية ، إلا أن العكس صحيح تماما ؛ فإصراره المثالي على المعرفة والبصيرة ينطوي على دلالة أخلاقية عميقة الأثر ، كما ان مواقفه الخيالية ، وشخصياته الوهمية هي في حقيقتها لا تعدو أن تكون صورة فنية وإسقاطات أساسية لتجربته الشخصية بوصفه كاتبا، قارئا ، إنسانا..إنه الحالم الذي يعلم أن ثمة من يحلم به .. انه البوليس السري الذي ينخدع في خفايا الجريمة ، انه ابن رشد المتحير الذي يعكس جهله تيه المؤلف نفسه . وربما كان الأجدر بنا أن نتسـاءل هنا : ما الذي يثير اهتمام كاتب كبير مثل بورخيس بأزمتنا نحن ؟ يبدو حتميا علينا هنا ان نقارن بورخيس بسيرفانتس . فأعمال بورخيس الأدبية تنشأ ، مثل دون كيشوت ، من أغوار المواجهة بين الأدب والحياة التي لا تمثل مشكلة الأدب حسب ، بل مشكلة التجربة الإنسانية برمتها : أي مشكلة الوهم والواقع .

ويذكر اندريه موريوس أن خورخي لويس بورخيس كاتب لم يؤلف الا القليل من المقالات أو القصص القصيرة لكن ذلك يكفي لنطلق عليه صفة " الكاتب العظيم " نظرا لما تنطوي عليه من روعة وبراعة ، وبسبب عمق ابتكارها وأسلوبها المحكم شبه الرياضي . فبورخيس الكاتب الأرجنتيني المولد والمزاج ، الذي تغذى على روائع الأدب العالمي ، لا يملك وطنا روحيا لأنه يبدع خارج حدود الزمان والمكان عوالم خيالية ورمزية ، وان واحدة من علامات أهميته هي انك عندما تحاول استحضار بعض أعماله في ذاكرتك ، تجدها  تحتشد عندئذ بأروع  صورة وأكملها.. انه قريب من كافكا ، من ادغار آلن بو ، وبعض الأحيان من هنري جيمز وويلز ، ودائما ما نجده قريبا من فاليري حينما يسقط علينا "ميتافيزيقاه  الخاصة " .

يقول بورخيس ان أي كتاب عظيم يدوم أثره طويلا لا بد من أن يكون مبهماً.. مُلغزاً ، لأنه مرآة تعرفنا بسمات القارئ ، الا أنه غير واعٍ بأهمية عمله ـ وهذا الوصف ينطبق على بورخيس نفسه تماماً. وبغض النظر عن الغموض الذي يلف أعمال بورخيس، إذا نظرنا اليها من الوهلة الأولى ، فان أعماله كلها تحتوي على مفاتيح توصل إلى استنباطها بصيغة توازيات واضحة مع كتاباته ومضامينه الأخرى التي اختط لنفسه فيها سياقاً أدبياً وفلسفياً . ومما يساعد على سبر أغوار بورخيس هو الاطلاع على مذاهب الأفلاطونية المحدثة ، إلا أن مثل هذه التأويلات قد لا تكفي لاستكناه غياهبه إذ ان المتعة الحقيقية التي نستشفها ونحن نقرأ أعماله تسبق كل شئ .

ومن غير المكن ان نحصي عدد المصادر التي استقى منها إبداعه ، فهو قرأ كل شئ، ولا سيما الموضوعات التي ما عاد أي شخص يعني بقراءتها : فهو  يقرأ للتصوف، للإغريق الإسكندريين ، لفلاسفة القرون الوسطى ، لا يبحث فيها إلا عن ومضات متوهجة عميقة وشاسعة. وقد كتب الفيلسوف الفرنسي باسكال مرة يقول "ان الطبيعة لا متناهية ، مركزها كل مكان ، ومحيطها اللامكان " ، ويبدو ان بورخيس انطلق من هذه النقطة . كما أنه وجد نفسه في مقولة جيوردانو برونو: "بإمكاننا ان نؤكد، بيقين تام ، ان الكون مركزه كل شئ وكل مكان ، ومحيطه هو اللامكان " ، علما ان برونو تأثر باللاهوت في القرن الثالث الذي وجد منه : " ان الله لا تدركه الأبصار ، مركزه كل مكان ، ومحيطه اللامكان" . وقد قادت هذه المقولة بورخيس إلى البحث في ما يخص العرب والمصريين واستقى منهم مادة موضوعاته المثيرة . وفضلاً عن ذلك ، كان معظم أساتذته من الإنجليز. فقد كان إعجابه بـويلز لا يوصف ،إذ مثلت روايات ويلز السمات المغروسة في المصير الإنساني. 

كما ان بورخيس معجب بإدغار آلن بو وتشيسترتون بقدر إعجابه بويلز . فقد كتب ادغار آلن بو قصصا رائعة . أما كافكا فكان بمثابة السلف بالنسبة لبورخيس ، مثل زينو ايليا، وكيركيغارد وروبرت براوننغ وغيرهم . وهكذا اتضح تأثير هؤلاء في عمل بورخيس إلا أن المفارقة هي أن بورخيس يقول " ان كل كاتب يخلق لنفسه السلف الذي يريد " .

        ولاشيء يسر بورخيس اكثر من التلاعب بالعقول ، الأحلام ، المكان ، الزمان ؛ وكلما أصبحت اللعبة اكثر تعقيدا ، زادت سعادتها ، فالحلم نفسه يمكن ان يكون مادة حلم: " كان العقل يحلم ، والعالم حلمه " . ويذكر بورخيس ان شوبنهور كتب يقول ان الحياة والأحلام أوراق في كتاب واحد بحيث أن قراءتها بشكل ترتيبي هي الحياة ، في حين أن الحلم تقليب أوراق هذا الكتاب. أما عند الموت ، فإننا سنكتشف مجددا لحظات حياتنا كلها، وسنضعها معا كما في الأحلام . وكان بورخيس يرقب المفارقات الفكرية الممكنة منطلقا من منظور الفلاسفة كلهم ، من ديموقريطس وحتى سبينوزا . وهو دائما ما يعترف بالمنابع التي نهل منها مادته ، فهو يقول انه لا ينبغي لأي كاتب أن يدعي لنفسه الأصالة في الأدب ، فالكُتاب كلهم ليسوا سوى نُسّاخ أمناء، إلى حد ما ، ومترجمون لنماذج أصيلة موجودة مسبقا.

        وغالبا ما يعمد نقاد بورخيس إلى تشبيهه بكافكا ، الذي كان هو أول من ترجم أعماله إلى الإسبانية . وما لا شك فيه ، بمقدورنا رؤية بصمات كافكا واضحة على أعمال بورخيس، إذ يتجلى ذلك في أسلوبه البارع في وصف موضوع مستحيل وفحصه بدقة ، ويتجلى أيضا في فكرته عن عالم هرمي لا متناه . الا ان الاختلاف بين هذين الكاتبين الشهيرين أهم بكثير من التشابه بينهما . فقد كتب كافكا روايات ، بينما اعترف بورخيس صراحة انه لا يستطيع ذلك ، إذ ان الأشكال التي جاء بها تضاهي عبقرية ادغار آلن بو ومذاهبه الشهيرة في توحيد التأثير وإيجاز .

 

من كتاب : " المتاهات وكتابات أخرى "

تحربر : جون إيربي و دونالد ييتس

 

Labyrinths & Other Writings

Edited By : Jhon Erby & Donald Yates

 

  ارسل هذه الصفحة الى صديق

اغلاق الصفحة