البراعة في المماحكات اللغوية بقية من بقايا ثقافة فاسدة

كيطان يحاول أن يحمي ظهور من تعرضوا للنقد في كتاب «ثقافة العنف في العراق»


السويد: عبد الإله لعيبي
قرأت في 31 مايو (أيار) 2002 في «صفحة ثقافة»، نقدا لكتاب «ثقافة العنف في العراق» بقلم عبد الخالق كيطان. ولفتت انتباهي ثلاث نقاط جوهرية في نقد كيطان، أولاها: أن أفكار الكاتب بدءاً بالعنوان الأول، مروراً بالعنوان الثاني حتى نهاية آخر جملة، هي رصد لعيوب الكتاب، عدا جملتين تكرم بهما كيطان للكتاب، معتبراً إياه مجرد «أرشيف»، و«بحث مجتهد في رواية الحرب». وعند تمعن قائمة العيوب هذه، نجد أنها تتصادم مع بعضها تصادماً مثيراً، حتى أنها تبدو، عند إعادة ترتيبها، كما لو أنها مجموعة متناثرة من الأفكار لبشر متعددين، أشرف على جمعها في قائمة واحدة كاتب معين. فهو يعيب على الكتاب ضيق مساحته البحثية «غاب عن الحرب ذهنه» بعض الفنون كـ «التشكيل والمسرح والموسيقى»، وفي الوقت نفسه يعيب مناقشة قصة الحرب الرديئة، وقصيدة الحرب الرديئة، كما لو أنها ليست جزءاً أساسياً من مساحة ثقافة العنف، ويعتب على الكتاب أنه ركز بحثه في اسمين أو ثلاثة، ثم يلومه لأنه قدم نقداً لناقد عدّه من الدرجة العاشرة، كما لو أن هذا الناقد، (لم يذكر كيطان اسمه)، لم يكن رأس الحربة في مجال النقد الأدبي في منظومة السلطة الثقافية، والمسؤول الأول عن لجنة اختيار النصوص الأدبية في المسابقات الأدبية. ومنها أيضاً لوم الكتاب لأنه تناول أجيالا عديدة من الكتاب، وأنه «تعدى سنوات حدود البحث؟»، وفي ذات الوقت طالبه بتقصي جوانب الثقافة بأبعادها التاريخية. وأن الكتاب اقتصر على الرواية، ومن جانب آخر يدعي أنه غاب عن بال المؤلف «المسرح والتشكيل والموسيقى، الغناء والسينما والتلفزيون»، أي لم ينحصر الكتاب في فن واحد هو الرواية. إن هذا الاضطراب ناجم عن احتمالين: أن يكون الكاتب قد قام بدور الجامع للمعلومات، متلقيا فكرة من هذا وأخرى من ذاك، دون أن يكلف نفسه مهمة مطابقتها مع بعضها، أو أنه يملك منطقاً خاصاً به، لا يفهمه أحد سواه.
أما النقطة الثانية، والتي تمس المنطق أيضاً، فتتمثل بولع الكاتب المذهل باختلاق مواضع النزاع والاختلاف، وفق قاعدة ثابتة ـ هي الخيط الوحيد الذي يربط أفكار كيطان المشتتة ببعضها ـ تسري على أفكاره كلها، وهي قاعدة افتراض الخطأ.
فمادة الكتاب بصفحاتها التي زادت على الثلاثمائة، وبوقائعها الغزيرة وأسئلتها المشحونة المتلاحقة، وتحليلها لمئات النصوص الشعرية والنثرية، لم تلحظ من قبل كاتب المقال، ولم يحدد موقفه منها الا بجملتين خرساوين، أكثر إثارة للعجب من نسيانه لمادة الكتاب، هما: «لها ما لها وعليها ما عليها» و«بغض النظر عن صحة أو لا صحة ما ورد في الكتاب»، لكن، ما الذي لها وما الذي عليها؟ ذلك أمر ظل مجهولا. وبدلا من مواجهة مضمون الكتاب، لجأ كيطان إلى منهج طريف في النقد، يمكن تسميته بالنقد على الهوية، أو النقد الافتراضي، حيث لا تناقش مادة البحث أو المبحوث وإنما تناقش قيمته المفترضة بالنسبة لكاتب المقال شخصيا.
فكيطان لا يناقش ما هو موجود في النص، بل يناقش افتراضات يضعها هو بنفسه للنص ويذهب من خلالها إلى استنتاج أفكاره. ولا يتورع وهو يقوم بافتراضاته عن تحوير وتبديل الأفكار والعبارات وتغيير معناها ودلالاتها، ثم يقوم بشغف بتأسيس حجج عقلية على ضوء ما يقوم به من تغييرات، وبعد ذلك يشرع بإطلاق الأحكام بناء على هذه الحجج. ومثال ذلك تغيير عبارة «حقبة الثمانينات» إلى «جيل الثمانينات»، ثم محاولة تبيان فساد منهج الكتاب الذي أدرج ضمن هذا «الجيل» كتابا من أجيال أخرى مثل حميد سعيد وسامي مهدي. وتغيير عبارة «ثقافة البعث» إلى عبارة «الثقافة العراقية»، أو افتراض «حدود لسنوات البحث» لم يقم الكتاب بوضعها، وإنما قام كيطان بنفسه باختراعها وتحديدها «إن محيط البحث كان جيل الثمانينات»! ثم يعمل على تبيان خطئها، أو افتراض أن تناول كتاب الحرب الذين خصهم الكتاب بالنقد «تحامل شخصي»، وبذلك فلا جدوى من قراءة ما كتب عنهم، وكأن يفترض أن ناقداً ما هو ناقد من الدرجة العاشرة. لذلك، فلا داعي لمناقشة أفكاره، كما يفترض كيطان أن المؤلف «أغفل» و«أهمل» و«غاب عن باله» موضوعات كثيرة، لذلك فإن ما بقي منها هو «عيب» فني.. وإلى آخر هذه الافتراضات. إن هذا النوع من النقد الافتراضي يذكر إلى حد كبير بقصيدة سامي مهدي الافتراضية الشهيرة «عبد الله الموهوم» من ديوان «الزوال»، التي وجهها إلى الشاعر سعدي يوسف ومن خلاله إلى جميع معارضي السلطة، مفترضاً فيها أن سعدي يصنع من خياله رجل شرطة، ثم يستفزه، ثم يضع مسدساً في يده ويزيد من استفزازه حتى يرغمه على إطلاق النار عليه! إن هذا اللون من التفكير نمط شائع في ثقافة النظم المغلقة، حيث تسود الوشاية والنميمة والتقارير، ويصبح الافتراض هو المعيار الحاسم في تقرير النيات وتحديد الهوية والولاء. بيد أن هذا المنطق لا يجد له مكاناً في ثقافة البلدان الديمقراطية، حيث تسود إلى حد مقبول روح المكاشفة والمصارحة، وتتوفر للقارئ سبل الاطلاع على النصوص وعلى التعليقات الخاصة بها بحرية تامة. فقارئ الخارج على سبيل المثال يستطيع الحصول على كتاب «ثقافة العنف» بيسر، ويستطيع الحصول على كل ما كتب عنه، وحينما يحصل على ذلك سيجد مثلا أن الافتراض القائل بأن المؤلف لم يبرر سبب تناوله لهذا الاسم دون ذاك من كتاب الحرب افتراض مختلق وكاذب تماماً. وسيجد أن الكتاب حدد «بدقة صارمة» سبب تناولهم، وفق الاعتبارات التالية: غزارة انتاجهم عن الحرب، أو علو مرتبتهم الثقافية، أو علو مكانتهم الأدبية في نظر السلطة (الجوائز). ومثل هذا يسري على الافتراض القائل بأن الكاتب «أهمل» و«أغفل» و«غاب عن باله» جملة من الأمور الثقافية، كالمسرح والسينما والأغاني. فهذه الأمور لم تكن أصلاً موضع بحث الكتاب، وبالتالي فهو غير معني بها. ولو أن كيطان كان على معرفة ببعض قنوات الصحافة الديمقراطية العراقية، لعرف أن الجزء الأول والثاني من الكتاب صدرا باسم «الأدب والحرية» و«أدب الحرب». «الأدب» وليس التشكيل والسينما والجداريات. وهو أمر يثبته الكاتب مراراً ـ لمن فاته قراءة ذلك النص ـ أيضاً في كتابه. ولو أن كيطان أتعب نفسه قليلاً أيضاً لقرأ على الغلاف الأخير من الجزء الأول دعوة جريدة المجرشة الرامية إلى استكمال صورة ثقافة العنف من خلال بحوث تخصصية، تستكمل بحث الكاتب سلام عبود، «الخاص بالأدب». وقد جاء في تلك الدعوة: «وفي النية تقديم ملاحق عن المسرح والسينما والفن التشكيلي والموسيقى كذلك، علنا نستطيع أن نساهم في إزالة بعض ما التبس علينا في هذه الفترة المظلمة..».
أما النقطة الثالثة التي وددت التوقف عندها فهي عدم اكتفاء كيطان بتغيير العبارات والمفاهيم، بل امتدت يداه إلى الوقائع أيضاً، على الرغم من عدم وجود وقائع في نقده سوى جملة واحدة، تحدثت عن أن كتاب «ثقافة العنف» منذ صدوره يثير «شهية الكتاب العراقيين بوجه خاص للتعليق عليه، وقد بدت أكثر تلك التعليقات متحاملة على الكتاب ومادته». وهنا في هذه النقطة يبتعد كيطان تماماً عن الأمانة، ففي حقيقة الأمر، ظهرت تعليقات ومتابعات عن الكتاب في أغلب الصحف العربية في بلدان عديدة، وكان جلّها ـ عدا ردود بعض المشاركين في ثقافة العنف، المنقودين في الكتاب ومنهم كيطان ـ جاءت لصالح الكتاب ومادته.
ما هي الخلاصة العقلية التي يريد السيد كيطان الوصول إليها؟ عدا إعلان عدائه السافر للكتاب، ومحاولة حماية ظهور من تعرضوا إلى النقد في الكتاب من كتاب الحرب، عدا ذلك لا يفصح كيطان عن شيء بوضوح تام، فكل شيء لديه «له ما له وعليه ما عليه».
ولكن، لو عدنا مجدداً إلى عنوان المقال، فسنجد شيئاً من الإجابة تتسرب على استحياء من بين ثنايا السطور. فكيطان يفتتح تساؤلاته بالعنوان التالي: «هل الثقافة العراقية ثقافة عنيفة؟»، وهو تساؤل يقف على طرف نقيض مع تساؤل كتاب سلام عبود الأساسي القائل بأن ثقافة العنف هي ثقافة السلطة الحاكمة في العراق. إن كيطان يغير هنا عبارة «سلطة البعث» ويضع بدلا عنها «العراقية». وهذا التعميم ـ سواء كان واعياً أو لا واعياً ـ ينطوي على تأويل خطير في نظري، أشار إليه الكتاب عند مقارنته لنص نازك الملائكة «قناديل لمندلي المقتولة»، وقصة عبد الخالق الركابي «الخيال»، مبينا أن نص الملائكة يستند إلى الثقافة الوطنية القائمة على التسامح، بينما يستند نص الركابي على الإرث الروحي لثقافة الحرب والإرهاب، رغم أن الكاتبين أنتجا نصيهما في الداخل، أي أنهما يختلفان في تكوينهما وارثهما الثقافي. إن تعميم مفهوم العنف، ووضع عنوان لا صلة لمادة الكتاب به، هو إيحاء علني للقارئ، بأن الكتاب لا يتحدث عن ثقافة السلطة الحاكمة، وإنما عن «الثقافة العراقية». إنه تأويل ضار، لا لأنه يخالف مادة الكتاب، بل لأنه أيضاً يفترض تأويلاً منافياً للواقع، مجيّراً لصالح ثقافة معادية جوهرياً لتوجه الكتاب وأهدافه.
وإذا أردنا أن نستخدم منطق كيطان ونطبقه على الأدب العراقي، فسنصل إلى هذه النتيجة: الكتابة عن حميد سعيد وشلش وسامي مهدي وساجدة الموسوي وعدنان الصائغ وجاسم الرصيف غير مقبولة لأنهم يمثلون أجيالاً مختلفة. الكتابة عن محسن الموسوي وباسم حمودي وماجد السامرائي وسليم عبد القادر «عيب» لأنهم نقاد من الدرجة العاشرة، والكتابة عن جواد الحطاب ووارد بدر «تحامل شخصي»، والكتابة عن الأدب الرديء نقيصة ثقافية، ومن دون الكتابة عن التشكيل والمسرح والسينما يكون البحث في الواقع الثقافي «إهمال» و«إغفال» و«غياب عن الذهن». إذ لا يجوز بحثياً كشف ثقافة العنف من خلال الكتابة عن القصة والرواية والنقد والشعر والفكر السياسي. حسن، عن أي شيء سنكتب؟ أليس أولئك هم ممثلو أدب الحرب؟ أليس هذا الأدب الرديء هو أدب السلطة والمعبر الأساسي عن ثقافة الحرب؟ كيف يمكن الكتابة عن الحرب من دون تسجيل دور هذا الأدب الرديء؟ أليست الرواية والقصة والنقد والشعر هي أبرز فنون هذا الأدب؟ أليس الفائزون بجوائز الحرب من الشعراء والقصاصين هم الممثلون المفضلون ـ في نظر جهاز الحرب نفسه ـ لأدب الحرب؟ وإذا كان كل أولئك لا يمثلون ثقافة وأدب الحرب، فمن هم ممثلوها؟ وهل الكتابة عن علي كيمياوي مثلا، وهو سياسي من الدرجة الألفين، نوع من التحامل الشخصي؟ وماذا سيفعل ادوارد سعيد بكتابه «الثقافة والامبريالية»، الذي لم يركز على السينما والمسرح والغناء والجداريات؟، إن دعوة كيطان، التي توسعت توسعاً مفرطاً في رصد عيوب مفترضة في الكتاب، تنطوي، من حيث لا يعلم، على تضييق مخيف، بل إلغاء تام لأية محاولة تهدف إلى محاكمة ثقافة العنف. إنها دفاع جدي عن النسيان تحت ذرائع العيب البحثي، أهو مجرد فساد ومراوغة في المنطق، أم أنه منطق مرتب ذو أهداف مدركة وواعية؟.
إن الجواب عن هذا التساؤل نجده كاملا في الوصف الذي أطلقه سلام عبود في كتابه «ثقافة العنف» على نص أدبي لكيطان، حينما عده جزءاً من لغة القادسية الجديدة، قادسية الخارج. فقد ألغى كيطان في ذلك النص ثقافة الفئات الديمقراطية العراقية في الخارج كلها، التي ناضلت على مدى عقود ضد الإرهاب والخراب الروحي، معتبراً صحيفة الزمان وألواح وثقافة 11 وضفاف وأوراق ثقافية «خلايا فذة لثقافة فريدة وغير مسبوقة في ثقافتنا العربية» و«أن الجهلة والاميين يزحفون بإصرار عجيب إلى تحطيمها» (ص 67 من كتاب «ثقافة العنف»).


جريدة الشرق الاوسط بتاريخ 21/حزيران/2002 العدد8606

 

  ارسل هذه الصفحة الى صديق

اغلاق الصفحة