نوبل للكلام

عبد الحميد الصايح

 

            لا نعلم  كيف يستعد الوسط الطبي او العلمي العربي مثلاً لاستقبال نتائج جائزة نوبل سنوياً.   الطبيعي في ذلك انهم يشبهون معشر الادباء في جانب واحد , في كونهم شرائح مختلفة حسب   قربها من الجائزة بدءاً من المرشحين اليها حتى العلماء والاطباء و التلاميذ على مقاعد الدراسة ,غير ان الذي لا نعلمه بالضبط هو حجم التشنج السنوي الذي يعتري تلك الاوساط بالقياس الى الوسط الادبي فما ان يقترب موعد منح الجائزة حتى تنبري الشعوب والاتحادات والدول والمنظمات الرسمية الى وضع الجائزة واعتباراتها في شتى المواضع. ومثلما كان الادباء العرب يشنون حملتهم التقليدية السنوية ضد الجائزة كونها لا تضع الادباء العرب في اعتبارها حتى وصلنا من التوتر والتشنج لو لم تأخذ نوبل (نجيب محفوظ) في جناحها لتمزقت من جرائه اعصابنا الادبية! وحين كنا طلبة صغاراً في المدارس الاولية كنا نتصور ان جائزة نوبل هي جائزة ادبية فقط!! ثم عرفنا فيما بعد انها جائزة للعلم والعلماء والطب والاطباء للسلام والاستسلام ومن ثم للادب والادباء. وكنا  نملأ اعجاباً وانبهاراً باولئك الذين يرفضون هذه الجائزة من العالم اجمع امثال سارتر وبرنادشو وغيرهم ونتغنى بمبررات هؤلاء في رفض اعظم جائزة في الكون مثل وصف (برناردشو) الجائزة ( انها مركب نجاة جاءني متاخراً بعد وصولي الي الشاطيء.) وحين منح الرئيس المصري   انور السادات نصف جائزة السلام كان التوتر النفسي آنذاك اعلى من النبأ بل سرى شعور عام بان رجال العالم ينالون (نوبل) بالاثار العلمية والادبية فيما يحصل عليها العرب بالتواقيع أي ان غرورنا وشوقنا بأزاء جائزة نوبل لا يشفيه الا جائزة كاملة وفي الادب تحديداً حتى حدثت المعجزة وانتبه القائمون على الجائزة في جلسة من النعاس الى انجاز هذه الامة في الشعر وفي الادب والثقافة والتاريخ والعلوم والقصة والرواية فتسلل نجيب محفوظ من مقاعد المقهى ومفاوضات الانتاج السينمائي والخلافات الساخنة حول اختيار الممثلين الى صفوف أدباء التاريخ الانساني العظام. وفي مفاجأة له قبل غيره راح (النوبلي العربي الاول) يفتش في كل مفاصل حياته ويعيد قراءة ما كتبه بنفسه ويتفحص مسوداته ويتهيأ لقبول الجائزة. ومع ذلك  بقي غرورنا الثقافي ابعد من هذه النقطة وتوقع المتشنجون رفض نجيب محفوظ للجائزة ليتقدم الى صف نخبة النوبليين برفضه لها لا نخبة المرشحين بالحصول عليها حسب وان مبرره الجاهز- كما صرح هو بعد ذلك- ان الجائزة تأخرت كثيراً عن العرب. وقد اخطأت طريقها الى طه حسين اوتوفيق الحكيم وغيرهم منذ زمن طويل، ولكن الرجل كان اكثر تواضعاً واغلق افواهنا التي شتمت نوبل طويلاً قبل ان يغلق افواه اللجنة المسئولة عن منحها فعم الهدوء وشعر الادباء العرب الصغار والكبار انهم في الموقع الصحيح من الانجاز العالمي ! .. وهدأ كل شيء حتى اننا منذ نجيب محفوظ لم نعلق على جائزة الادب وكأننا اكتفينا بها! وهنا نتساءل ماذا حصل لو ان الجائزة كانت من نصيب عالم من علمائنا؟ لاشك انها لن تطفيء لهيبنا ولظللنا نسعى ونحتج لان ذلك ليس تقديرنا. وحين فاز عالم مصري بالجائزة احتفلت به مصر وحدها كما يحتفى بحارس مرمى, فنحن مصابون بترجيح الكلام.. نؤخذ بالكلام ونصر على الكلام ونحب ان يمتدح كلامنا قبل ان تمتدح صفاتنا, حتى ان نبينا الكريم حين اراد له الله جلت قدرته معجزة يقارع بها  من يشك بامره منا  لم تكن معجزة في الطب واحياء الموتى او  السحر وتغيير قانون الطبيعة بل  حباه ( صلعم) بمعجز الكلام ليقارع  - بكلام الله- كلام البشر العاجزين امثالنا. فثقافتنا نتاج موروث طويل من الكلام بل إن ابرز ماأ تصف به تاريخنا الانساني كان الكلام ،ادباؤنا اكثر من علمائنا وخطباؤنا اكثر من مخترعينا وقوانين نظم الشعر اكثر قداسة من قوانين احترام ابن آدم وحريته في الحياة والتعبير، وحضورنا الاجتماعي يقاس بحلو الكلام لا بطبيعة المهنة والانجاز ولذلك تبدو جائزة نوبل في تصورنا التقليدي ليست للعلم والطب ومفاصل الحياة بقدر ما هي إغلاق الفم تكريماً للكلام .

 

اغلاق الصفحة